الزحام كثيف فى شارع لاس رامبلاس يسير مئات من سكان برشلونة والسائحين فى فرح، بعضهم يتوقف عند بائعى الزهور أو أمام لوحات الرسامين، وآخرون يلقون أجسادهم المتعبة على مقاعد كافيهات الرصيف. توقف بجوار كافيه رجل يرتدى ملابس شيخ من العصور الوسطى وعلى رأسه عمامة متأملا ماحوله فى قرف وغضب، لم يهتم المارة بالرجل وملابسه ظنوا أنها موضة أو أحد فنانى الطريق وما أكثرهم فى برشلونة. خمن بعضهم بأنه ممثل مسرحى ينتظر زميلاً له ليذهبا إلى مسرح (يسو) القريب فى الشارع السياحى الشهير وحبه للشخصية التى يمثلها جعله يتقمصها حتى فى الطريق.. مالت سيدة على صديقها وهما جالسان على الكافيه يرتشفان عصير الليمون قائلة له كما أخبرتك هو ممثل مسرح، انظر لملابس صديقه القادم إنهما من نفس الفرقة ولكن يؤديان شخصيتين مختلفتين. يرتدى الصديق القادم بذلة رمادية قديمة موديل الستينيات سار فى اعتداد شديد وبهدوء ثم صافح صديقه، تلفتا حولهما فى غيظ باحثين عن كافيه خال من النساء الجميلات والشباب الذى يغنى فى مرح، استسلما للأمر الواقع فى ضيق واضطرا للجلوس على طاولة بجوار مجموعة من الشباب والشابات يغنون ويتبادلون الضحكات. استلفتت ملابسهما المسرحية شابًا جالسًا بجواهما يعزف على الجيتار، سألهما الشاب العازف بالإنجليزية إذا ما كانا ممثلين فى المسرح القريب لأنه من عشاق المسرح ويريد معرفة العروض التى يقدمها الآن؟ نظر الشيخ للشاب فى عدم فهم واحتقار، أما الصديق الستينى فرد فى اقتضاب بإنجليزية تشوبها لكنة أمريكية قائلا: نحن علماء.. اعتدل الشاب فى جلسته وتوقف عن العزف سائلا فى احترام عن اسميهما وتخصصهما العلمى هل هو فى الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات؟ ابتسم الصديق الستينى فى سخرية واستهزأ من سؤال الشاب: نحن فوق كل هذا.. نحن علماء دين.. أمامك شيخ الإسلام تقى الدين بن تيمية وأنا سيد قطب صاحب كتاب «معالم فى الطريق» الكتاب الذى هدى الملايين إلى طريق الثورة والإيمان. نادى الستينى بحدة على الجرسون طالبا فنجانين من القهوة معلنا انتهاء حديثه مع الشاب، شعر الشيخ بالقلق، فهم الستينى سبب قلق الشيخ طمأنه بأن ماطلبه حلال لا غبار عليه. ظل الشيخ والستينى يتبادلان حوارًا هامسًا وتظهر على وجهيهما الحيرة من حين لآخر، التفت الستينى ناحية الشاب من جديد وبنفس التعالى والحدة سأله كيف يذهبان إلى بلدة إسبانية اسمها «ريبول»؟ .. ابتسم الشاب فى ود مثنيا على اختيارهما، فريبول بلدة ساحرة مناظرها الطبيعية خلابة، ثم امتدت يد الشاب إلى خريطة مطوية على طاولته وفردها أمام الستينى شارحا له طرق الوصول إلى ريبول لأنها لا تبعد كثيرا عن برشلونة. ألقى الستينى بعض الدولارات ثمن القهوة على الطاولة دون شكر الشاب على مساعدتهما وغادرا مكانهما مسرعين فى طريقهما إلى ريبول البلدة الهادئة. ابن تيمية وسيد قطب فى ريبول لم يمر ابن تيمية وسيد قطب من قبل فى شارع «راس رامبلاس» أو تناولا القهوة على أحد الكافيهات.. لكن المؤكد أنهما وصلا إلى بلدة ريبول الجبلية. وصل ابن تيمية وسيد قطب إلى بلدة ريبول بوسيلة مواصلات غير اعتيادية، حملهما إلى البلدة الهادئة عقل عبد الباقى الساتى إمام مسجد ريبول، العقل المحرض لعمليات الدهس والتفجيرات التى وقعت فى برشلونة. احتل سيد التكفير ابن تيمية وزعيم التنظيم سيد قطب مقعدين وثيرين فى عقل الإمام عبد الباقى وهما فى طريقهما إلى ريبول.. إنهما مسافران إذا وصلا بلدة ما فاعلم أن الخراب يجاورهما على المقعد الثالث. يسمح التاريخ الرهيب للشخصيتين بالسيطرة على العقول وتفجير العنف سواء فى حياتهما أو بعد رحيلهما فى توجيه الاتهام لهما دون تردد بمجرد وقوع عمل إرهابى سواء فى الداخل أو الخارج. تعطى جريمة برشلونة الإرهابية نموذجًا خاصًا يوضح تأثير ابن تيمية وقطب على منفذيها من الإمام المحرض والمنساقين وراءه من الشباب حتى الانتحار. يقدم تحليل كتبه الدكتور عبد الكريم عتوك المستشار الأمنى وخبير مكافحة الإرهاب تحت عنوان (إسبانيا وسر مجهودات مكافحة الإرهاب) ونشره المركز الأوروبى لدراسات مكافحة الإرهاب دليلاً على وصول سيد التكفير إلى ريبول. «أشارت التحقيقات والدراسات التى شملت مجموع التراب الإسبانى بعد أن وصل مؤشر الخطر الى الدرجة 4 من أصل 5 أن غالبية الأشخاص المستهدفين والمرشحين ببؤر التوتر هم أشخاص تتراوح أعمارهم ما بين 20 و30 سنة ذوى مستوى ثقافة يميل كل الميل إلى الأمية وفى ظل الفراغ القاتل الذى يعيشونه بإسبانيا والإقصاء من فرص الشغل من طرف الحزب الشعبى الإسبانى (pp)المعادى للمهاجرين العرب وما ينتج عن ذلك من تحسر ويأس واعتبارا من كون المسجد هو الملجأ والمتنفس الوحيد لقهر كثرة وقت الفراغ بالتالى يتم استقطاب معظم هؤلاء الشباب من مراكز إيواء القاصرين ومن الشارع العام حيث يبث المغلوبون على أمرهم والفقراء الذين يشعرون بالظلم والتمييز ليتم حقنهم بمناهج السلفية التكفيرية والتطرف عن طريق مدهم بكتب لابن تيمية وغيره، وأحقية الخلافة الإسلامية تمهيدا للتخطيط لعمليات إرهابية». يصيب هذا التحليل المتلقى بدهشة تاريخية فما يصفه الآن فى إسبانيا حدث منذ قرون فى دمشق على يد سيد التكفير، نفس الطبقات التى استهدفها ليقودها ويفرض منهجه غير القويم بالعنف على الجميع متحديا الدولة.. الفارق بين الحدثين المكان والزمان لكن الفاعل واحد فى دمشق حضر بنفسه وفى ريبول حضر بفكره. بعد أن يمهد سيد التكفير الطريق يأتى زعيم التنظيم ليقدم الإطار الحركى والدعم للفكر التكفيرى ليتحول إلى إرهاب أسود، فالمسجد الذى تولى إدارته عبد الباقى الساتى شمال ريبول تابع لجمعية النور التى تتبع اتحاد الجمعيات الإسلامية فى إسبانيا، وحسب تقرير لمركز «راند» الأمريكى صدر فى 2007 فزعماء هذا الاتحاد يتبعون تنظيم الإخوان السورى، وبمعنى آخر فإدارة المسجد تحت قيادة التنظيم الدولى لجماعة الإخوان الإرهابية. يوميات بلدة ريبول تشرح يوميات بلدة ريبول المستكينة فى غابات جبال البرانس كيف استطاع سيد التكفير وزعيم التنظيم عن طريق مندوبهما عبدالباقى الساتى تقديم خلطتهما السامة التى أصابت شباب البلدة بالتسمم الفكرى وحولت 12 منهم إلى إرهابيين. وصل الساتى إلى ريبول بعد خروجه من السجن عقب قضائه مدة العقوبة فى قضية تهريب مخدرات من المغرب إلى إسبانيا التقى الساتى فى السجن بمندوب آخر «رشيد أغليف» قائد عمليات تفجير مدريد فى 2004 التقط الساتى من أغليف الفيروس القاتل وذهب به إلى ريبول. اتجه مباشرة إلى المسجد الموجود فى البلدة واستولى عليه بتزكية من أتباع سيد التنظيم لينشر أفكار سيد التكفير أهالى البلدة المسالمين- نسبة غير قليلة منهم من المهاجرين ذوى الأصول المغاربية- لاحظوا حدوث تغيرات فى الشباب والشابات بعد وصول الرجل الغامض. انتشر النقاب بين الشابات وأعفيت لحى الشباب وأصبح الآباء والأمهات كفارًا وخارجين عن دين الإسلام الصحيح، تم تحريم الموسيقى والكلام إلا بما يراه مندوب سيدى التكفير والتنظيم.. اختفى المرح والسرور من البلدة الجميلة وحل الخراب. تأتى المرحلة الثانية بعد القضاء على الحياة الاجتماعية فى البلدة الجميلة يحدث الانتقاء.. هنا تكون رؤية زعيم التنظيم أكثر تأثيرا من سيد التكفير، تم اختيار12 شابا هم الأكثر اقتناعا بضلالات سيد التكفير ولكنهم أيضا الأكثر إصرارا من وجهة نظر سيد التنظيم على تحويل التكفير إلى إرهاب. انتهت قصة الفتية الاثنى عشر فى شارع (راس رامبلاس) يدهسون الأبرياء الذى تناول فيه سيد التكفير وزعيم التنظيم قهوتهما بشكل خيالى، لكن الواقع الدموى يقول إنهم حضرا بالفعل. راقب من بعيد رجل وقور عاش على هذه الأرض الإسبانية منذ قرون المشهد فى عجب.. هذا الرجل فيلسوف اسمه ابن رشد، اندهش الفيلسوف كيف لبنى ملته وجنسه اتباع أفكار سيدى التكفير والتنظيم وترك أفكاره التنويرية التى أعطت أوروبا والعالم الغربى كل هذا التقدم. استمر الفيلسوف فى عجبه..•