فنان لا يعرف المستحيل، عاشق الفن والتحدي، سار ضد التيار منذ أن كان بالسنوات الأولى من عمره فأبى أن يعيش أسير الكتاتيب وخرج إلى «البندر» ليصبح تلميذا لديه مقعد خشبى وطباشير ملون.. إنه الدكتور عبدالوهاب عبدالمحسن ابن القرية الذى خرج منها ليستكمل مسيرة التحدى بدخول كليه الفنون الجميلة فكان عاشقا للفن دون أن يعرف قواعده بعد، وعاد إليها فنانا دارسا ومدرسا، ليلون حياة أهلها برفقة جمع من الفنانين وليزيل عن وجهها بعضا من آثار الزمن ويمنحها نبضا جديدا مفعما بروح الفن. • الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن، المشاغب فى دنيا الفن كيف كانت البداية؟ يبتسم قائلا: لدى حالة خاصة، فأنا مولود فى ريف بلقاس دقهلية، وكطبيعة الريف ليس به مفهوم الفن أو الإبداع، لكن أقصى طموح أى أسرة أن يكون ابنها مهندسا زراعيا أو أزهريا، وهذه هى الفرص المناسبة للعمل داخل هذا النطاق الضيق، لأن حياة الريف زمان كانت الطفولة بها شجية جدا، وبالتالى دخلت الكتاب كعادة أبناء القرية، ولكن ظلت ميولى نحو عالم المدرسة لا تنتهي، حتى تحققت وبالفعل دخلت المدرسة فى خامسة ابتدائى بعد أن تمردت أخيرا على الكتاب وقررت دخول المدرسة، وكانت هناك حادثة شهيرة لى لأتحول من طفل كتاب إلى طفل مدارس، عندما فوجئت وأثناء حضورى فى إحدى المرات بأن كل من فى الكتاب مكفوفون، وكان كل صاحب عاهة يروح الكتاب ويسموه الشيخ فلان، وكنت وقتها قد قاربت على الأربع سنوات عندما خضت هذا التحدى الأكبر وقولتلهم «إما أن أكون أعمى مثلهم أو تسيبونى أروح المدرسة وفعلا رضخوا لطلبى بعد دخولى فى حالة نفسية سيئة دفعتهم إلى قبول التحاقى بالمدرسة» وقد كان. • وماذا عن دخولك عالم الفن التشكيلى؟ أنا أحب الرسم منذ الطفولة، دون أن أعرف فى البداية قواعد أو أساسيات هذا الفن، وقررت دخول كلية فنون جميلة لأن اسمها عجبنى وحسيت إن فيها بداية مستقبلى ورغم اعتراض الأسرة فى البداية إلا أنى أصررت عليها خاصة فنون جميلة إسكندرية وحرصت على التفوق وقررت إلى جانب دراستى أن أطلع على كل الفنون وتزداد دائرة معرفتى حتى أرد الجميل لكل من ساعدنى للالتحاق بها ولأثبت لأسرتى أنى لم أفشل بدخولى هذه الكلية. • الفن علاج • سنوات من العمل والتدريس، لتعود مجددا إلى البرلس، فماذا تعلمت من هذه التجربة الفنية؟ بداية، الهدف من التجربة اكتشاف المواهب عند أطفال البرلس، ومحاولة ابتكار حرفة لها علاقة بحالة البيئة، حيث تشتهر مدينة برج البرلس بصناعة المراكب بكل أنواعها وأحجامها، بالإضافة إلى تجميل مدينة البرلس ونشر الوعى الفنى والتذوق من خلال تجميل الحوائط، وقد تعلمت من تجربة البرلس قيمة العطاء والتطوع للخدمة العامة، وأن كل الناس البسطاء محتاجون للفن والثقافة ككل احتياجهم للخبز والعلاج. • وهل سيمتد هذا النشاط الفنى من البرلس إلى باقى المحافظات المصرية؟ ملتقى البرلس ملتقى سنوى مرتبط بالبرلس ونسعى لاستمراره وتنميته، لتصبح البرلس مكانا يقصده الناس راغبو المتعة بالفن والفعاليات الثقافية على الأقل مرة فى السنة وأتمنى أن يصبح نموذجا يقتدى به فى باقى محافظات مصر كل حسب طبيعة المكان، ومصر تحتاج للعديد من المهرجانات، نحتاج مهرجانات للحصاد، وللصيد وللزراعة وللصحارى وللربيع والمفروض كل فنان يهتم بناسه وبلده. • العدالة الثقافية • منافذ الإعلان عن المعارض ألا ترى أنها محدودة، وفى حاجة إلى تنويع وزيادة لتوسيع دائرة الانتشار؟ بالفعل، لابد من تطبيق العدالة الثقافية فى كل أقاليم مصر، فلا يصح أن تتركز الأنشطة الثقافية فى القاهرة، ويجب أن يكون لقطاع الفنون قاعات فى كل أقاليم مصر أو على الأقل تعود المعارض الطوافة وكل معرض يقيمه القطاع يدور فى كل المحافظات، وكذلك كل فعاليات وزارة الثقافة، الأوبرا وخلافه، ولدينا قاعات عديدة فى الأقاليم لا تعمل وإن عملت تعمل تأدية واجب بدون إعلان ولا اهتمام ولا رغبة فى توصيل رسالة ثقافية، لذلك كان لابد الفن ينزل للشوارع مهما كانت قيمته العالية فمن حق الناس تشوف وتسمع كل الفنون الرفيعة. • هناك من يتحدث عن شللية المعارض الكبيرة، بمعنى أنها لا تقبل غير الفنانين المعروفين ولا تعطى الفرصة لشباب الفنانين ذوى الإمكانيات المادية المحدودة رغم مواهبهم الجيدة؟ أنا مع الشللية، طالما تتفاعل لمصلحة الفن، كل مجموعة شايفة إنها متفاهمة ولايقة على بعض وممكن تثرى بعضها من خلال فعاليات جادة ما المانع، ولكن فى نفس الوقت لازم تكون فيه معارض كبيرة للكبار ومعارض للشباب ويكون فيه حراك وتنافس للأفضل، والمفروض اللى مش معروف يسعى إنه يبقى معروف من خلال اجتهاده فى منتجه الإبداعي، والكبير بيكون كبير بتجربته ولا حياة للكسالى والاتكاليين لأن الإبداع رحلة كفاح ومثابرة وتراكم خبرات وبحث ليل نهار ورعاية لموهبة أعطاها للبعض الخالق الأعظم، وفى الفن مفيش حد بيعطى حد حاجة الفنان هو اللى بيعطى نفسه كل شىء كمان هو من يسلب نفسه كل شىء والطيور على أشكالها تقع. • كليات الفنون الجميلة.. هل ترى أنها تؤهل بالفعل لتخريج فنان حقيقى؟ أم تحولت هى الأخرى إلى كلية نظرية؟ كليات الفنون الآن لم تعد كالسابق والسبب طريقة الدراسات العليا التى تهدر وقت الأساتذة وانشغالهم عن الإبداع بالدراسات النظرية. • من أين تستمد أفكار أعمالك؟ بالنسبة لأعمالى لها علاقة بالبيئة التى أعيش فيها وحريص على أن كل أعمالى تشبهنى وتعبر عني، وفى صياغة تواكب العصر وإيقاعه، وأفخر أن مرسمى تخرج فيه العديد من الفنانين الذين لهم حضور محترم ومتحقق على الساحة التشكيلية. • روح تراثنا • متى تتغير النظرة للفن على أنه رفاهية ومن الكماليات وليس شيئا أساسيا؟ من قال إن الفن رفاهية! الفن ضرورة اجتماعية فهو قناة للتواصل والتلاحم والحب والخير وكل قيم عليا لأى مجتمع، كما أنه يساعد الإنسان على البقاء والرضا والتطور، وحالة التغريب وعزل الفن عن حياة كل الناس فعل مقصود فى خطة تجهيل وإحباط المجتمع، الترويج للاغتراب والتبعية بعدت الفن عن وجوده فى حياتنا اليومية، بغربة الفن تغربنا فى مأكلنا وتغربنا فى ملبسنا وتغربنا فى بيوتنا التى نسكنها، واختلفت ذائقتنا فى كل شىء، والعلاج نعود لتراثنا وفنوننا الشعبية ونستلهم بيئتنا وتراثنا الغنى والمتنوع والثرى جدا والمتصل بماضينا وننتج فنا خاصاً بنا وخالصا يعبر عن الشخصية المصرية وجزء من العلاج نزول الفن للناس فى كل مكان. • لماذا لا يتم تبسيط الفن ليفهمه العامة؟ لا يوجد فن بسيط وفن مش بسيط فيه فنان ومش فنان وفيه تجربة جادة وتجربة غير جادة وفيه تجربة مكتملة وغير مكتملة. • وماذا يمثل لك الفن؟ الفن مسئولية أتحملها بجدية وأنا أعيشه جدا، فأنا لست فنانا أنا رجل تعلم أن يبوح على الأسطح بصدق ولهذا مازلت فلاحا يتمنى زراعة الأرض ويسعد بإنباتها وإطعام أى كائن من زرع يدى وإطعام أى كائن مما أزرع، وهكذا الأمر بالنسبة للفن، فالفن يرمم قلوبا ويعمر عقولا. • لا للتغريب • كيف ترى مستقبل الفن فى مصر؟ مصر الآن بها فنانون مهمون جدا لكن مفيهاش حركة تشكيلية، بمعنى أنها تحتاج لحركة نقدية واعية تقود مسارها وتنظم توجهاتها خاصة أن الحركة التشكيلية بعد صالون الشباب وقعت فى التبعية إلا فيما ندر من التجارب الجادة والمستقلة.. والعلاج يكمن فى تصحيح التوجهات واللجوء للمرجعيات التى لها علاقة بتراثنا وتاريخنا العامر بالفنون ونستفيد من التقنيات الحديثة فى القطاعات التشكيلية المتقدمة.. فمفهوم التطور عند الكثير مفهوم خاطأ ويعتمد على التغريب، يجب أن ترتبط فنوننا بقضايانا وأحلامنا وخيالنا وليس طموح وخيال وهموم الآخر الذى لا يمثلنا. • وماذا عن قرية البرلس؟ البرلس مدينة موحية ومثيرة للإبداع فيها طاقة إيجابية كبيرة ولها تراث قبطى وإسلامى ورومانى وفرعونى والطبيعة هناك متنوعة من تصنيع مراكب وصيد وكثبان رملية، فالبرلس حالة خاصة من الفن والإبداع والحنين.•