2 «سلطان» «جنّات» هى حياتى.. أول حبّ وأول عشرة كاملة، أفكّر فيها فى غيابها وحضورها.. وفى يقظتى ومنامى.. وحتى فى الغيبوبة هى معى دون أن تدرى.. أعرف أنها تأتى كل يوم إلى المستشفى، وتبقى أطول مدة ممكنة. ولولا أنه غير مسموح بالمبيت هنا، لباتت. هى لا تعرف أننى فى الغيبوبة أشعر بما حولى، بطريقة مختلفة، طفيفة، «طشاش» يشبه الأطياف والخيالات والأحلام، والأساطير وقصص الأطفال، أرى بعض الأشياء، والأجسام، وفى الغيبوبة يتكوّن لدى الإنسان حسّ خاص تزداد فيه بعض القدرات، كالشمّ والسمع، والرؤية من وقت لآخر، موجات من الإدراك الطفيف تتبعها موجات طويلة من النوم أو الاستغراق فى الغيبوبة. رأيت «جنّات» بعد فترة من وجودى هنا.. تعجّبت من أنها لم تحضر على الفور. لكن حضورها، وهذا التخاطر بينى وبينها، أوضح لى كل شىء. لابد أنها تعجّبت لوقوعى فى الغيبوبة.. ولابد قالت إننى لا أسمح للغيبوبة بأن تأخذنى منها! «جنّات» فى جحيم، تتعّذب معى.. عذابا مقيما! لا أقصد ذلك، لكن ما العمل، الأمر ليس بيدى، أحبّها فعلا.. ولا أحبّ غيرها. هى تعرف هذا، وليتها تكون مؤمنة به. لكن مشكلتها، ومشكلتى، هى أننى أحببت ممارسة الحبّ.. ولم أحبّ الإقدام على الزواج. وربما أكون قد ظلمتها معى، لكن هذا حالى، وهذا نصيبها. نحن لم نختر من نحبّ.. نحن لانختار من نحبّ، هناك قوة خفيّة، طاقة مغناطيسية أو كهرومغناطيسية لا أدرى، تحرّك عواطفنا. قرأت مرة أن الحبّ يحدث نتيجة تفاعل كهربائى يشعر به المخ وينقله القلب أو العكس، لا أتذكّر الآن، فأنا - لاتنسوا- فى غيبوبة. والمثال واضح، فهل اخترت أنا الوقوع فى حبّ «جنّات»؟ هل هى التى اختارت؟ لا أنا ولا هى اخترنا، لكن الحبّ وقع علينا ووقع بيننا، ووقعنا فيه فى لحظة قدّرتها الأقدار. طبعا كان يمكن أن أكون إنسانا مختلفا، وتتم وقائع المشهد الأول من قصتنا بطريقة مختلفة، ولا يقع حبّ أو أى شىء.. ربما لما وقع أى شىء. لنتصوّر مثلا شخصا آخر غيرى، بعثت به أم «جنّات» إلى شقتها، ليجلب لها شيئا ما.. ولنتصوّر أنه مرّ بغرفة نوم «جنّات».. ودفعته غريزة حبّ الاستطلاع ليرى ما رأيت. ماذا كان يمكن أن يفعل؟ ربما تجاهل الأمر كله، ونظر للناحية الأخرى. وجلب ما طلب منه أن يجلبه ومضى. ولم يقع حبّ. ربما - بعد أن شاهد ماشاهدت - اندفع نحو الغطاء، وفرده وسوّاه ليغطى ما تعرّى من جسد «جنّات». ومضى. ولم يقع حبّ. وقد يكون أمعن النظر وتلّذذ.. و.. و.. ثم. انسحب من المشهد بسرعة. ولم يقع حبّ. وماذا لو كانت «جنّات» غير «جنّات»؟ ماذا لو أنها صمّمت على الصراخ والرفض والرفس وعدم التجاوب؟ ماذا لو قلبت الدنيا فوق رأسى وأخبرت أمها وأمّى توّا بمحاولتى؟! وقد تتصرّف بطريقة أخرى.. لو كانت إنسانة أخرى. فالمسألة واضحة، القدر رتّب الموقف، وأنا وهى لعبنا الأدوار كما تليق بنا. الحبّ هو حادث عرضى تاريخى أزلى، غامض. مُبهم. ساحر. باهر. يقع دون إرادة المحبين، ودون ترتيب وتخطيط منهم أو من أحدهم. الحبّ مفتاح الفرج. وحكيم الحبّ الأول «ابن حزم الأندلسى» يقول: «إن الحبّ أوله هزل وآخره جد، وهو لا يوصف، بل لابد من معاناته حتى تعرفه. والدين لا ينكره والشريعة لا تمنعه، إذ القلوب بيد الله عزّ وجل. والمحبّة أنواع، تتغيّر بتغيّر أسبابها، إلا محبّة العشق الصحيح فهى التى لا فناء لها إلا بالموت. وفى هذه الحالة ينشغل البال ويحدث الخبل والوسواس والنحول وسائر دلائل الحزن، على نحو لا يحدث مثله فى سائر أجناس الحبّ». وأنا أحبّ «جنّات».. ولا أحبّ غيرها.. وخوفى على هذا الحبّ النبيل الجميل الكامل المتكامل، الذى دفق النار فى كيانى وحرّك كل خلايا وجودى، خوفى من أن يتلاشى.. ينهار.. ينتهى. يكون كأن لم يكن، هو الذى يفرض عليّ ألا أقبل بتحوّله من حالة وجودية ممتزجة بين رجل وامرأة إلى «شركة عامة» علنية، تخضع لقانون الشركات، أقصد ضغوط وقيود وتسلّط وتجبّر المجتمع والناس. هل أترك حبّى فريسة للقيل والقال؟ يتحكّم فيه أهلى وأهلها، وآخرون بلا حصر ولا عد؟ هل أنا مجنون حتى أضيّع ما وهبنى الله، وأسلّمه بيدى لمن لا حق له فيه، أُعطى ما أملك لمن لا يستحق؟! ثم.. نقطة أخرى: هل إعلان الزواج والفرح والمأذون.. والورقة الرسمية دلائل على الحبّ؟ طبعا تستغرب حبيبتى «جنّات» علاقاتى بنساء وبنات أخريات.. أنا أيضا أستغرب ذلك! ولا أجد له شرحا محددا.. هل حبّى الأول وارتباطه بالجنس، جعلنى أعشق ممارسته، حتى مع من لا أحبّ؟! لست متأكدا، كل ما أعرفه عن نفسى هو أننى أدخل فى علاقات مع نساء وبنات أخريات، وأنغمس فيها، وأحس بالاكتشاف واللذة وروعة الأنثى، ولعل الفن هو أحد الأسباب، لكن.. لا أظن أنه السبب الأول بدليل أن زملائى ومن أعرفهم من الفنانين، ليسوا مثلى، معظمهم أناس عاديون، متزوّجون أو غير متزوّجين.. ونادر من يجمع منهم، بين أكثر من امرأة، فى وقت واحد.. مثلى. أتذكّر أول علاقة مع إنسانة أخرى.. كانت فى الكلية، واحدة من الموديلات.. من أقدم موديلات الكلية.. كانت تساعدنى فى سنواتى الأولى، لا أعرف لماذا أنا بالذات؟ عندما تنتهى من عملها، وهو الوقوف أو الجلوس فى وضع يحدّده لها الأستاذ أو المعيد وسط «الأتيليه» ونلتفّ نحن الطلبة حولها وأمام كل منا لوحته، لنرسمها بأقلام الفحم السوداء أو بألوان الزيت. أمضيت أربع سنوات أرسم العاريات والعرايا، فقد كان هناك أيضا موديلات رجال. وخلال هذه السنوات، ومن بدايتها نشأت بينى وبين «ماشالله» الموديل التى تكبرنى بمالا يقلّ عن عشرين سنة، حالة تقارب.. كانت معجبة بخطوطى، تقول لى إنه مرّ عليها مئات التلاميذ فى الكلية طوال أكثر من عشرين سنة، كلّهم رسموها، لكنّها فى مرّات نادرة أحسّت بالفنان داخل التلميذ. وبعض التلاميذ أصبحوا أساتذة بالكلية أو فنانين تشكيليين معروفين. تنبّأت لى «ماشالله» وأنا تلميذ جديد فى «سنة أولى تصوير» - ثانى سنوات الدراسة بعد السنة الإعدادية- بأنه سيكون لى مستقبل كبير. ووعدتنى بمساعدتى لتحقيق ذلك.. ولم أفهم معنى وعدها، كنت أشعر بأنها امرأة طيّبة وغلبانة، وأشفق عليها، من هذه البهدلة، وأقول لنفسى إن «أكل العيش مرّ». وقد يدهش أساتذتى الكبار عندما أعترف الآن أن «ماشالله» التى تتعرّى أمامنا كموديل، علّمتنى ونبّهتنى لبعض اللمحات الأساسية فى فن التصوير الزيتى والرسم والتكوين، وتناسب الفراغ والكتلة، والظل والنور، والأشكال، ودرجات اللون، والضوء وتدرجاته ودلالاته،. وزاوية الإضاءة فى اللوحة.. وطبعا جماليات الجسد الإنسانى عموما، والأنثوى خصوصا. لم تكن بالطبع تلقى على محاضرات.. لكن ملاحظاتها وأحاديثها وحكاياتها عن الفنانين والأساتذة الذين لم نلحق بهم، وخفّة ظلّها وفلسفتها البسيطة مع الحياة والناس، جعلتنى أرغب فى الاقتراب منها أكثر. عرفت قصّة حياتها.. ودعتنى لزيارتها فى بيتها، وأطلعتنى على لوحات لفنانين معروفين وأساتذة وهواة رسموها لها عارية تماما، فى صباها، وشبابها. وتحدّتنى أن أنجح فى رسم لوحات أقوى وأجمل.. فقرّرت أن أخوض مغامرة، أرسم مجموعة لوحات تكفى لإقامة معرض كامل، تكون هى بطلتها، ووعدتها أن يكون ذلك أول معرض لأعمالى.. وأن يضمّ ما لا يقل عن 25: ..30 لوحة. كنت فى العشرين تقريبا.. وكان عمرها ضعف عمرى تقريبا. واتفقنا.. آتى إلى بيتها كلّما تيسّرت لى فرصة، تتعرّى هى، وأرسم أنا. وكانت لها شروط.. لن تأخذ منى أى أموال، ولن تسمح لى بأن أطلع أى أحد على مشروعنا السرّى هذا إلا بعد اكتماله. وأن آخذ وقتى، فلا أتسرّع - ولا أتباطأ أيضا- فى عملى. كانت تعطينى فرصة عمرى، درس خصوصى.. خبرة عمرها مع كل أساتذة أقسام التصوير.. والنحت والحفر. وفكّرت أن «ماشالله» هى تعويذة نجاحى كفنان. وبدأت وقتها أقول لنفسى إننى محظوظ بهذه المرأة، التى تحسّ بموهبتى المبكّرة، وتساعدنى فى تطويرها والتعبير عن لمستى الخاصّة كفنّان شاب يتطلّع إلى التجديد. وعندما بدأت أضع خطط عملى معها، وتصوّراتى عن أفكار وتكوينات وموضوعات اللوحات، كنت أستمع إلى أساتذتى جيدا.. وأتحدّث إلى بعضهم وأناقش معهم أعمالا من كلاسيكيات فن التصوير الزيتى فى مدارسه المختلفة، وحتى أعمالهم هم. وكان يستوقفنى كلام بعضهم عن ضرورة الإحساس بروح الشخصية التى تصّورها فى البورتريه، وروح المكان، حتى تتمكّن من التعبير عنه بصدق وحرارة وعمق، وحيوية. ومن حكايات «ماشالله» عرفت أنها تزوجت وفشلت فى زواجها بعد أن أنجبت ابنتها الوحيدة «لحظة». طلّقها زوجها وعاد إلى القرية، رافضا أن تكون مهنة امرأته هى التعرى بالساعات ليتفرّج عليها التلاميذ! أثّرت فىّ كثيرا حياة «ماشالله».. أحسست أنها إنسانة مفعمة بالتجربة والمشاعر والحكمة البديهية، مع أنها لا تقرأ ولاتكتب، فقط «تفك الخط».. واكتشفت أن لها قدرات أخرى مدهشة، فهى تقرأ الكفّ. عرفت عنها ذلك مصادفة، كنت أسلّم عليها لدى وصولى بيتها ذات يوم، فوجدتها تتحسّس باطن يدى.. وطلبت منّى أن أفتح كفّى، وبعد لحظة من التمعّن، وضعت كفّها على كفّى.. كما لو كانت طبيبا يضع السماعة على صدرى، وسكتنا برهة، ثم قالت لى أن عليّ أن أحافظ على ما يسعدنى فى حياتى. ولم أفهم كلامها.. ظننت أنها علمت بقصّتى مع «جنّات».. وعندما شرحت، بان لى أنها لا تعرف أن هناك «جنّات» أصلا. وبينما كنت أواصل مشروعى معها، تلامست يدانا وكفّانا، اعتصرت كفّى بيديها، ثم احتضنتنى.. وكانت عارية، وأطلقت ضحكة صافية، ولأول مرة أحسّ بطراوة ثدى أنثى ناضجة، عفويّة، تلقائية، طيّعة كطين الأرض الخصبة.. «ماشالله» أمتعتنى .. قبلاتها حارة، وعناقها صاخب، واحتضانها مثير، فيه رغبة عارمة مغلّفة بشىء من الأمومة، حنان دافق وعطاء بازخ. كنت أتعلّم رسم جسدها العارى فأصبحت أتذوّق طعم هذا الجسد. علّمتنى فنون الممارسة الصحيحة للعلاقة الحميمة، وكانت تذوب بين ذراعى لوعة وروعة، والحقيقة أنها كانت فى شديد الحاجة إلى إشباع حاجتها، ولم تكن تقبل بالهوان، والمتاجرة فى جسدها. والغريب أنها لم تشترط أو تطلب منى أى شىء، فقط تريد المتعة، والمؤانسة، والكتمان. وخلال ممارستنا للعشق كان سلوكها رخيما، لا ابتذال فيه. تعاشرنى كزوج كامل الأهلية، لا كتلميذ موهوب فى الرسم وله مستقبل. وكانت تحبّ الملاطفة والتدليل والتمهيد والإثارة، كما كانت تحبّ النظافة، وتحتاط لكل شىء. ومع ذلك جاء يوم انقلب فيه الحال، واضطربت الأمور. كنا نمضى الوقت بين الشغل على مشروعنا الفنى واللوحات التى أرسمها لها، وبين العناق والمعاشرة، عندما جاءت «لحظة» فجأة، فوجدتنا فى ذروة اللقاء. هى ممدّدة على الأرض وتحتها مرتبة وأنا معها، هى عارية.. وأنا عار. «لحظة»- واسمها «لواحظ» - هى ابنتها الوحيدة، تعيش معها معظم الوقت، ومع أبيها فى القرية، من وقت لوقت.. لم تنطق الأم ولم تنطق البنت.. أصاب كلتيهما ذهول. وبالطبع لم أنطق أنا. كان تحت «ماشالله» فرش سرير حريرى غطت جسدها به على الفور. وارتبكت أنا، وسحبت ملابسى من الأرض وهرولت إلى الحمام.. غبت فيه قليلا، قبل أن أعود بكامل هندامى. لا أعرف ماذا جرى بين الأم وابنتها. لكن صمتا مريرا ساد ثلاثتنا. وطال، إلى أن قطعته «ماشالله» وهى تخاطبنى، دون أن تنظر نحوى: - طب يا أستاذ.. نشوفك بكره بقى. وإلىالأسبوع القادم. • ملخص ما نشر رعشة شديدة السماء تهوى والأرض تتزلزل «جنات» فى جحيم.. حبيبها «سلطان» الفنان رسام الكاريكاتير، سقط فى بئر الغيبوبة. لا تصدق.. وفى المستشفى تروى له عن حبها ومعاناتها فى حبه.. وجنونه، وتعدد علاقاته، ورفضه الزواج، وتستعيد ذكرياتهما معا وتحاول تفسير أسباب شروده العاطفى الذى اختارته إحدى «جناته»- وعددهن سبع- موضعا لرسالة دكتوراة! «جنات» تؤكد أن «سلطان» ليس خائنا، لكنها الظروف.. والتشتت السياسى والعاطفى.. وتقول إنها تعيش قصة حبها له كأحد سباقات سباحة المسافات الطويلة.. التى برعت فيها، تتنافس فيه مع جنات وجنات وجنات! ولديها إصرار جبار على الفوز.