جلس يشرب فنجان قهوته، وهو يداعبنى وأنا ألعب حوله بعروستى، كنت وقتها بنت التسع سنوات، لا أنسى جدى وقد جلس يستمع لأغنية عدى النهار للعندليب عبدالحليم حافظ، وعلى الرغم من أن الحرب قامت وانتصرنا، وانتهى زمنها، لكن جدى كان يسمعها دائماً حتى توفى!! • فاجأته يوماً بسؤالى: لماذا هذه الأغنية بالتحديد، رغم مرور عشرات السنوات عليها؟!! فأجابنى مبتسماً: «إنها ليست أغنية وحسب، بل هى شاهد على حقبة من تاريخ طويل ملىء بالانكسار والانتصار، والدموع والدم، والفرح والحزن.. تاريخ بنته مصر بعرقها وكدها ودم شهدائها. هل تعلمين يا بنيتى أن أغنية عدى النهار شارك فى تأليفها حليم مع عبدالرحمن الأبنودى وقت حرب 1967, وقتها كان الاثنان فى مبنى الإذاعة المصرية يقدمان أغانى وطنية من ألحان كمال الطويل، منها: ابنك بيقول لك يا بطل، واضرب.. اضرب، وراية العرب. فجاء خبر النكسة الذى كان بمثابة صدمة للجميع، فقام الأبنودى بارتجال كلمات الأغنية بفعل تأثير اللحظة، لكن الوحى توقف عند عبارة «يا هل ترى الليل الحزين.. أبوالعيون الدابلانين»، فأكمل عبدالحليم: «أبو الغناوى المجروحين»، فاستأنف الأبنودى الأغنية، ولحنها بليغ حمدى لتكون أول أغنية وطنية يؤلفها، وطالب فيها المصريين بمواجهة النكسة، والنظر للمستقبل وتحرير البلاد، والثأر لها. الحقيقة أننى كم تمنيت أن يكون الفن الآن رسالة، مثلما كان قديماً، فأنا من جيل ثورة 25 يناير، لكن للأسف لم أر حتى الآن أغنية تعبر عن المرحلة، وتشحذ الهمم مثلما كانت أغانى حليم الوطنية التى دغدغت مشاعر المصريين، وأثارت هممهم، فمن ينسى أغنية «قولنا هنبنى، وأدى إحنا بنينا السد العالى.. يا استعمار بنيناه بإدينا السد العالى»!!. تلك أغان وحدت الصف، فى زمن قدم فيه الفن رسالة لا تقل عن رسالة الجندى فى أرض المعركة، فما سمعته من أغانى عبد الحليم الوطنية جعلنى أتساءل: «أين الأغانى الوطنية للثورة، لا أحد ينكر أن الشباب يحاولون، لكن الكبار يتناسون أغانى الحماس، وتوحيد الصف». فالعندليب فى زمن الحرب قام بدور وطنى لا يقل عن دور المحارب على الجبهة، وتلك هى الرسالة السامية للفن، فلم يكتف بالغناء فقط، بل أقام حفلة ستبقى حفلته الأشهر عقب نكسة 1967 لصالح المجهود الحربى فى قاعة ألبرت هول بالعاصمة البريطانية «لندن»، وشملت وصلته الغنائية أغنيتين من أفضل أغانى عبدالحليم الوطنية، وهما «عدى النهار» و«المسيح». دعونى اعترف أنه لا يوجد من أبناء جيلى من لا يحب أغانى العندليب الأسمر، وخاصة الوطنية منها، التى بلغت نحو 61 أغنية، حُفظت فى تاريخ الوطن الثورى، دوماً نشتاق إليها كلما أصابنا الظمأ الوطنى. والسؤال الذى لا يغيب عن مخيلتى دائماً: هل نستطيع أن ننسى أغانى بالأحضان يا بلدنا يا حلوة، وحكاية شعب؟.. كم تمنيت أن أكون فدائية بعدما سمعت أغنية «فدائى»، وكم حزنت عندما لم يرجع بى زمانى لكى ألتقط معه صورة تحت الراية المنصورة، ويا لغيرتى الشديدة حينما بحثت فى زمنى، ولم أجد مطرباً مثله يغنى للرئيس عبدالناصر «مطالب شعب»، و«خلى السلاح صاحى» مثلما غنى العندليب أمام الرئيس ناصر فى العيد العاشر لثورة يوليو. مثلى مثل الكثير من جيلى نفتقد ونشتاق لحليم جيلنا.. فنان وطنى لا يأبه إلا لمصلحة وطنه، أقسم وحلف بسماها وترابها ألا تغيب الشمس العربية طول ماهو عايش فوق الدنيا. مات جدى، ومازال طعم قهوته فى فمى، وأغنيته فى أذنى.. وعدى النهار ياحليم.•