كثيرة هى بيوت الدعارة فى جميع أنحاء العالم، لكن قليلة تلك البيوت التى تحمل داخلها قصصا وحكايات وترتبط بحواديت سياسية مع شخصيات نافذة فى المجتمع. من هنا تأتى أهمية و«قيمة» مدام كلود، باعتبارها أشهر من أدار منزلاً للدعارة طوال 30 عاماً وضعتها على قمة قوادات فرنسا بل أوروبا فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، حيث قررت أخيراً كتابة مذكراتها من خلال جورنالجى لتروى أسرار هذا البيت الذى كانت تديره فى باريس، وكان من رواده أشهر زعماء العالم. والشق الأخير الخاص بنوعية رواد هذا المنزل، أعادنى بالذاكرة لأكثر من 10 سنوات مضت خلال زيارتى لباريس بصحبة اثنين من الأصدقاء، لنكتشف تنوع سوق الدعارة فى فرنسا ليناسب جميع الفئات والأذواق وهو مالم نستوعبه فى وقتها، ويكفى أن أذكر تجربتين تبين بجلاء هذا التنوع، الأولى كانت عندما نزلنا بالخطأ من مترو الأنفاق فى إحدى المحطات القريبة من حى تقطنه الجاليات العربية وتحديداً إحدى دول المغرب العربى، لنجد أنفسنا فى «حى دعارة عربي» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث أطقم الحراسة بأحجامهم غير الطبيعية وشواربهم الطويلة والمنازل ذات الواجهات غير النظيفة والإضاءة الخافتة، أما التجربة الثانية فكانت على أطراف شارع «بيجال» الشهير الذى يضم فى أحد جوانبه ملهى «المولان روج» المعروف بعروضه وجمهوره المميز، وهذا الشارع ذ كما هو معروف - هو أحد أبرز شوارع الجنس ومستلزماته فى باريس، وقد فوجئنا وقتها بسيدات على «سنجة عشرة» يقفن لاصطياد زبائنهن، لكن الغريب أن هؤلاء النسوة الجميلات شكلا ما هن إلا «رجال» تم تعديل أجزاء منهم!!! وبالعودة لقصة مدام كلود - 91 عاماً - نترك الكلام للكاتب الصحفى الأمريكى «ويليام ستيديم» الذى يكتب مذكراتها ليطرح رؤيته حول هذه السيدة فماذا قال؟ أقنعتها بكتابة تلك المذكرات فى الثمانينيات ولكنها لم تنشر إلا الآن، نظراً لزوال نفوذ الرجال الذين ذكروا بهذه المذكرات أو لغيابهم عن الحياة وهى شخصية تتميز بهيئتها الراقية وشعرها الأشقر وعشقها لارتداء كل ما له علاقة بماركة «شانيل»، وتفضل أن تطلق على فتياتها اسم «البجعات» وكانت تختارهن طويلات القامة، ويفضل لو كن ممثلات أو عارضات أزياء فاشلات». وعلى الرغم من تلقيها تربية كاثوليكية صارمة، إلا أنها تخلت عن المفاهيم الدينية وتحولت إلى عاهرة، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكانت 5 سنوات كفيلة بالنسبة للشابة الفرنسية أن تتفوق على زميلاتها جميعا فى هذه المهنة، ثم فتحت أول بيت دعارة تديره لحسابها فى شارع الشانزليزيه الشهير بوسط باريس. وهناك كثيرون كانوا على ثقة بأن علاقات مدام كلود متشعبة وقوية جعلتها ملكة ليل أوروبا خلال عقود ثلاثة، فعلاقاتها شملت وزراء حكومة الجمهورية الفرنسية الخامسة، بدءاً من 1958لكن إذا كان ذلك فى حينه مجرد تكهنات فإن مدام كلود كشفت عن ذلك صراحة فى فيلم وثائقى يحمل عنوان «الجنس.. الكذب وأسرار الدولة». وقد احتفظ ستيديم طوال 30 عاما بأسرار مدام كلود، علما بأن أسماء لامعة مثل الزعيم الليبى الراحل العقيد معمر القذافى كان من بين أبرز زبائن المدام، كما أنه يذكر أسماء قادة مثل الرئيس الأمريكى الراحل جون كيندى وشاه إيران الراحل محمد رضا بهلوى وغيرهما، لكن خدمات بيت الدعارة الباريسى الشهير لم تقتصر على الزعماء فحسب، إذ احتوت قائمة المستفيدين من هذه الخدمات على أسماء مشاهير الممثلين، مثل مارلون براندو، ريكس هاريسون، وجيوفانى أنجيلى المساهم الرئيسى لشركة فيات الإيطالية للسيارات، والذى كان يشارك فى حفلات الجنس الجماعى، وكذلك عسكريون مثل الجنرال موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق. وإذا كان ما جاء فى مذكرات الصحفى صحيحا فعلا، فذلك يوضح سبب عدم كشفه عن هذه الأسرار لعشرات السنين.. فقيامه بذلك من قبل كان سيعرض حياته لخطر كبير. ويؤكد ستيديم أن الرئيس الأمريكى جون كيندى طلب من مدام كلود ترتيب ليلة حمراء مع حسناء شريطة أن تكون شبيهة زوجته جاكلين على أن تكون «ساخنة أكثر» حسب وصف كيندى الذى يقتبس الصحفى كلامه.. أما زوج جاكلين الثانى، الملياردير اليونانى أوناسيس فقصد ذات يوم بيت الدعارة الشهير برفقة عشيقته المغنية اليونانية ماريا كالاس، كما يتطرق ستيديم إلى طرفة مع الرسام مارك شاجال الذى كان يهوى رسم الفتيات عاريات، مشيرا إلى أن الفنان السوفيتى الشهير كان يتسامر مع خليلاته برسم لوحات مستوحاة من تفاصيل الليالى الساخنة التى يمضيها معهن فى منزل باريس. كما يكشف ستيديم فى كتابه أيضاً استعانة المخابرات الأمريكية بفتيات كلود لرفع الروح المعنوية للمشاركين فى اتفاقيات باريس للسلام عام 1973 والتى كانت تسعى لإنهاء الحرب الأمريكية على فيتنام، ولكن فيما بعد اضطرت للهرب من الضرائب التى تلاحقها وغادرت من باريس إلى لوس أنجلوس بالولايات المتحدةالأمريكية عام 1977 لتعيش حياة تخلو من السخاء والسحر الباريسى، ولكنها عادت فيما بعد لبيتها فى باريس لتعيش فى عزلة مختارة حتى اليوم. الغريب أنه عُرف عن مدام كلود كرهها للنساء وللرجال على السواء فقد كانت ترى فيهم مجرد «حافظات نقود»، كما يُنسب إليها ابتكار مصطلح «فتاة تحت الطلب».. كما نُقل عنها أنها كانت تبغض الحب، بقولها «هناك شيئان سيظل الناس ينفقون المال للحصول عليهما هما الطعام والحب الجاهز للبيع.. وأنا لا أتقن إعداد الطعام». وسبق للسينما أن سلطت الضوء على حياة مدام كلود فى أكثر من فيلم سينمائى، الأول كان فى عام 1977 من بطولة الممثلة الفرنسية فرانسواز فابيان، التى أدت دور مديرة بيت الدعارة الشهير فى هذا العمل الفنى الذى يحمل اسمها، حيث أكدت الممثلة ما قيل عن المدام من قِبل الفتيات اللواتى كن يعملن لحسابها، بأنها لم تكن يوما عاطفية، لدرجة أن أيا منهن لا يذكرها بكلمة طيبة، مما دفع فابيان إلى وصفها ب «السيدة المستبدة».