(اللى يحتاجه البيت.. يحرم على الجامع) مثل شعبى فى منتهى البلاغة يؤكد أن المسجد بكل ما يحمل من قداسة واحترام لا يجب أن يأخذ الأولوية الأولى فى حياة إنسان لم يكف احتياجات بيته أولا، جاء هذا المثل على خاطرى وأنا أتابع حالة الجدل التى أثارتها فكرة تبرع الجامعات الحكومية لصندوق تحيا مصر، تلك الفكرة التى وضع حجر أساسها الدكتور جابر نصار بتبرعه الأسبوع الماضى بمبلغ 20 مليون جنيه، لتلحق به بعد ذلك جامعة الفيوم برئاسة الدكتور عبدالحميد عبدالتواب صبرى والتى تبرعت بمبلغ مليون جنيه، فيما أعلن الدكتور حسن عتمان، رئيس جامعة المنصورة، عن المشاركة فى دعم المبادرة بالتبرع ب 5 ملايين جنيه من الموارد الذاتية للجامعة، قرارات التبرع الثلاث لم تكن الوحيدة فى المجتمع الجامعى، فقد جاء تزامنا معها قرار الدكتور محمد الطيب، عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية بكفر الشيخ، بتبرعه براتبه الشهرى كاملاَ مدى الحياة متضمناً جميع مستحقاته المالية من مجالس الأقسام ومكافأة الامتحانات والبدلات واللجان العلمية، كما أعلنت جامعة الزقازيق، أن أعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعة، تبرعوا بأجر يومين من راتبهم لصالح صندوق دعم مصر، ومن قبلهم الدكتور أمين لطفى رئيس جامعة بنى سويف الذى تبرع بنصف راتبه، والدكتور نبيل نور الدين، رئيس جامعة سوهاج الذى تبرع بنصف شهر من إجمالى راتب أعضاء هيئة التدريس بالجامعات، والدكتور على أبوالحمايل؛ رئيس جامعة دمياط، الذى قرر التبرع براتبه خلال الشهر المتبقى له فى العمل قبل بلوغه سن المعاش، لكن الفارق يكمن فى كون رؤساء الجامعات الثلاث تبرعوا من ميزانية الجامعة وليس من أموالهم الخاصة. الجدل لم يكن سببه الوحيد هو أن الجامعة (الحكومية) تتبرع للصندوق (الحكومى) ليعاود بدوره منح الجامعات ما يسد احتياجاتها!، لكن سببه أيضا هو التناقض فى تصريحات رؤساء تلك الجامعات على مدار عام مضى، ولا سيما رئيس جامعة القاهرة الذى طالما اشتكى من قلة الموارد الخاصة بالجامعة، التى أدت لحالة من التدهور بالمستشفيات والمنظومة التعليمية، ومن بعدها التصريح بأن ميزانية الجامعة قد بلغت نسبة العجز بها أكثر من 500 مليون جنيه عن العام الماضى، ثم جاءت خطوة تقليل تكلفة التغذية بالمدينة الجامعية من 26 مليون جنيه إلى 16 مليون جنيه، بفارق 10 ملايين جنيه، وذلك بعد وضع خطة جديدة لعمل المدن الجامعية، لتدلل بشكل قاطع عن أن الجامعة تمر بأزمات طاحنة.
التصريحات المتناقضة والتباين فى المواقف دفع اتحاد طلاب جامعة القاهرة إلى فتح النارعلى الدكتور جابر نصار، حيث أصدر الطلاب بيانا لهم احتوى على عدة تساؤلات مشروعة مثل، هل اقتصاد مصر بحاجة إلى .تبرع من جامعة القاهرة التى هى فى أمس الحاجة إلى الأموالئ أم اقتصاد مصر بحاجة إلى أن تسعى الجامعة فى جمع الأموال من جميع الجهات لكى تقوم بدورها بتقديم خريجين للدولة ذوى علم حقيقى يتميزون بأنهم قادرون على قيادة الدولة علميا وبحثيا وثقافيا فى جميع المجالات.
هل تحتاج مصر التبرع من مالها الحكومى إلى صندوقها الحكومى لكى يصرف فى مجالات غير البحث العلمى الذى هو الطريق الوحيد لتقدم البلاد، وهل لدى القيادات الجامعية «ذوو الرؤية العلمية والبحثية للدولة» طرق أخرى غير الدعم الكامل للبحث العلمى؟
ورغم أن تلك الأسئلة المشروعة لم يحصل الطلاب على إجاباتها حتى الآن، إلا أن الثابت والمؤكد أن الجامعات بها مواطن عجز وثغرات عديدة كان لزاما على رئيس الجامعة أن يسدها قبل أن يفكر فى التبرع لأن (ما تحتاجه الجامعة يحرم على الصندوق)
∎ الشفافية مطلوبة
البداية مع الدكتور أحمد عبدالسلام الباحث والمدرس المساعد بقسم العلاقات العامة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، والذى يرى أن التبرع لصندوق تحيا مصر مبادرة طيبة، لكن المجتمع الجامعى لا يدار بهذا الشكل، فالجامعة ليست شركة هادفة للربح، لكنها هيئة حكومية مصادر دخلها معروفة، لذلك فإن وجود فائض فى ميزانيتها لابد أن يتم معرفة مصدره، وتحديد مصادر الإنفاق التى كانت ستتم إذا لم يتم التبرع وفقا لمبدأ الشفافية الذى لابد أن يكون سمة لكل التعاملات بعد الثورة، ورغم أنه فى ظل وضع الجامعة الحالى لا يمكن أن نطلق على العشرين مليون جنيه أنها فائض، لكن ظنى أن مصدرها الصناديق الخاصة لكل كلية، والتى يتصرف فيها العميد بشكل مباشر وتدر دخلاً كبيراً جدا للجامعة ولكنها لا تخضع لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات، ومع ذلك فإن الصناديق الخاصة تحتاج أيضا لإعادة نظر، من قبل وزير التعليم العالى شخصيا الذى يتعين عليه أن يضع آليات لإنفاق أموال الصناديق الخاصة حتى تذهب لبنود ذات أولوية.
أما عن همومه كباحث ومدرس مساعد، والتى كان يتمنى أن يخصص جزءا من أموال التبرع لحلها، يقول: ننفق كثيرا على شراء المراجع والكتب، والطباعة، رغم أن المكتبة توفر لنا الكثير منها بالإضافة إلى لجنة المعارض التى تشترى جزءا منها أيضا، لكننا نظل بحاجة إلى كثير من المراجع الأجنبية ذات الأثمان الباهظة، فقد وصل المبلغ الذى أنفقته على رسالة الماجستير الخاصة بى إلى 03 ألف جنيه، وهو ما يتضاعف بالنسبة للكليات العملية كالزراعة والعلوم والطب، الذى يضطر الباحث بها أن يحجز معملاً أو يستأجر أرضاً، أو يشترى أدوات، وفى ظل هذه التكاليف الكبيرة كان يتعين على الجامعة أن تدعم الباحثين بها، لكن الجامعة تكتفى بمنحنا 004 جنيه بدل طباعة، أما عن الماجستير الذى يظل الباحث ينفق عليه لمدة أربع أو خمس سنوات فالبدل الخاص به 005 جنيه، وكنا كباحثين نقوم بتجميع الفواتير ونسلمها للجامعة لنحصل على بدل لما أنفقناه على الرسالة لكن الجامعة قامت بإلغاء ذلك الإجراء قبل بضعة أشهر، مما يشكل عبئا إضافيا علينا، مشيرا إلى أنه يعتقد أنه لو الجامعة وفرت هذه الأموال للبحث العلمى كان الأمر سيفيد مصر بشكل أكبر من التبرع بالأموال مباشرة للصندوق، مؤكدا أن هناك أفكاراً أفضل للتبرع كان يتعين على الجامعة أخذها فى الاعتبار، فعلى سبيل المثال، يتم دعوة العاملين فى الجامعة إلى الموافقة على الخصم من رواتبهم من مبلغ 05 إلى 002 جنيه كل على حسب استطاعته، ويصبح التبرع تطوعيا، مما يشجع العاملين لأن يكونوا أكثر إيجابية. وأنا من منطلق تخصصى فى العلاقات العامة أرى أنه كان يجب على رئيس الجامعة عمل مؤتمر صحفى يوضح فيه ميزانية جامعته، وما تبقى منها وخطته لإنفاق هذا الفائض، فلن يستقم المجتمع الجامعى إلا بإرساء مبادئ الشفافية والمحاسبة والتواصل مع الرأى العام.
∎ مديونات قصر العينى
أما الدكتور أحمد حسنين، مدرس التخدير والرعاية المركزة بطب القصر العينى، فيرى أن المستشفى أحوج ما يكون لهذا المبلغ، حيث يقول: لدينا عجز فى كثير من الأشياء، بالإضافة إلى نقص التمريض، والعمال، فهناك أسرة عناية مركزة لا تعمل بسبب نقص التمريض، وحتى المستشفى الجديد للطوارئ المنفق عليه أكثر من مائة مليون جنيه والممول من قبل البنك الأهلى تم تأجيل افتتاحه لشهور طويلة ولازال، لعدم وجود ميزانية لجلب هيئة تمريض وعمال وفنيين، فقصر العينى الفرنساوى عليه مديونيات لجهات عديدة، بل إن جامعة القاهرة نفسها عليها مديونيات لقصر العينى، حيث إنها لا تدفع ثمن علاج العاملين بالجامعة منذ فترة، وهو ما يفسر تردى حال مستشفى قصر العينى لهذه الدرجة، فالمريض يضطر لشراء الشاش والقطن والحقن عند دخوله، فعلى الأقل كان يتعين على رئيس الجامعة أن يسدد ديونه قبل أن يتبرع، وعلى صعيد آخر، فأطباء قصر العينى منذ سنوات لا يستطيعون إيقاف سياراتهم لأن المكان المخصص لذلك أمام المستشفى ضيق جدا، فى مقابل عددنا الكبير مما يجعل عملية إيقاف السيارة عبارة عن رحلة عذاب يومية، وكان من المفترض أن يتم عمل جراج متعدد الطوابق بتكلفة 3 ملايين لكن عدم وجود ميزانية حالت دون تنفيذه، وتفسيرى لاتجاه رئيس الجامعة للتبرع لصالح الصندوق وتجاهل القائمة الطويلة من مشكلات مستشفى قصر العينى هو بسبب تغير نظام اختيار القيادات الجامعية الذى أصبح بالتعيين بدلا من الانتخاب، لذلك فكل رئيس جامعة يحاول أن يخطب ود ورضا من يعينه، فلم يعد للناخبين أى قيمة لذا فهو ليس بحاجة إلى رضاهم.
∎ مساءلة قانونية
(نوع من أنواع تملق الحاكم الذى كان يتعين على أهل العلم أن يبتعدوا عنه) بهذه الكلمات فسر الدكتور محمد كمال عضو النقابة المستقلة لأعضاء هيئة التدريس أسباب اتجاه رؤساء الجامعات إلى التبرع فى هذا الوقت، مضيفا: إن رؤساء الجامعات الذين أعلنوا عن تبرعهم لصندوق تحيا مصر، ليسوا ملاكا لهذه الأموال، لكنهم مستخلفون عليها بحكم عملهم، وإعلان دكتور جابر نصار تحديدا بالتبرع بهذا المبلغ الضخم هو أمر عجيب، لأنه فى بداية العام الحالى اشتكى من عجز فى ميزانية الجامعة يصل إلى 005 مليون، وكان من باب أولى توجيه هذه الأموال لتحديث مستشفى قصر العينى، أو زيادة الدعم الذى يحصل عليه الطلاب، أو التكفل بمصروفات غير القادرين منهم، أو توفير الإمكانيات المطلوبة لمعامل الكليات العملية التى لايجد فيها الأساتذة مستلزمات التشغيل ويشتريها الطلاب حتى يستطيعوا أداء تجاربهم داخل المعامل، وعن هموم أعضاء هيئة التدريس التى كان يتوقع حلها طالما وجد فائض يقول كان عليه تخصيص هذا المبلغ لصندوق خاص لرعاية أسر المتوفين من أعضاء هيئة التدريس ممن يكادون يتسولون قوت يومهم، كما أن رئيس الجامعة لا يحق له التصرف فى أموال الجامعة لأنها ليست أمواله الخاصة، فهو مجرد موظف لايجوز له قانونا التبرع بأموال الجهة التى يعمل بها، حتى لو كان هذا التبرع للحكومة ذاتها، فالأموال هى جزء من عهدته، التى لو فاضت كان عليه إعادتها للخزينة العامة، وأى رئيس جامعة سلك هذا المسلك يعرض نفسه للمساءلة القانونية من قبل أعضاء هيئة التدريس فى جامعته، خاصة فى ظل التأخير المستمر الذى تمارسه الجامعات فى صرف حقوق أعضاء هيئة التدريس الهزيلة، مثل مستحقات الامتحانات، والتصحيح والمراقبة، والإشراف على الرسائل، والتى تصل مكافأتها فى بعض الأحيان إلى 80 جنيها عن مناقشة الرسالة!، فكان من الأجدر أن تخصص الملايين لرفع المكافآت وزيادة جوائز النشر الدولى.
∎ قضية منتهية
الوصول لدكتور جابر نصار للتعليق على ما ورد فى التحقيق كان أمرا صعبا، خاصة أنه امتنع عن لقاء أو الرد على الصحفيين بعد سيل الانتقادات اللاذعة على قرار التبرع، وهو ما دفعنى للتوجه إلى الدكتور عادل عبدالغفار المتحدث الرسمى لجامعة القاهرة الذى فاجأنى أيضا بقوله أنه لا يمتلك ما يقوله بخصوص هذا الموضوع، فالقصة منتهية على حد وصفه، والجامعة سترسل بيانا صحفيا لكل الصحف تشرح فيه موقفها، مشيرا إلى أن الموضوع لا يستحق لكن الصحافة تبحث عن (جنازة لتشبع فيها لطم) على حد تعبيره.
∎ المستحقات مستوفاة
وبالانتقال إلى الدكتور عبدالحميد عبدالتواب رئيس جامعة الفيوم، والذى تبرعت جامعته بمبلغ هو الأقل بالنسبة لباقى الجامعات، وذلك تماشيا مع كون الجامعة ذات موارد محدودة، حيث يقول: تبرعنا بمليون جنيه تفاعلا مع الحدث، فعندما نرى رئيس الجمهورية تبرع بنصف ممتلكاته ونصف راتبه فعلينا جميعا أن نتكاتف ونحذو حذوه، مشيرا إلى أن المليون جنيه تم توفيرها من فائض أموال التعليم المفتوح بالجامعة، مؤكدا أن كل مستحقات أعضاء هيئة التدريس مستوفاة وكل احتياجات الطلاب متوفرة، والمبلغ فائض فعلا عن الحاجة، حيث تمنح الجامعات مكافآت وجوائز فى عيد العلم لدعم الباحثين والمدرسين المساعدين، كما تساعدهم فى طبع الرسالة الجامعية، وتشترى مواد كيميائية ومستلزمات بحيثية للباحثين فى الكليات العملية، وذلك بعد تكوين لجنة تبحث فى الأمر، ويرجع الدكتور عبدالحميد استقرار جامعة الفيوم ماديا إلى محافظتها على إعداد الهيكل الإدارى بها، أما بخصوص النقد الذى يردده البعض من كون التبرع صادرا من الحكومة إلى الحكومة فهو انتقاد يفتقر للوجاهة على حد وصفه، لأن هناك ما يعرف بالدين الداخلى والمفترض أن الحكومة بكل هيئاتها منظومة واحدة تساعد بعضها البعض للنهوض بالوطن، مؤكدا أن مشاكل الجامعات ليست جميعها مشاكل مادية لكنها تتعلق بالنظام وعدم تقدير قيمة العمل، أما عن أوجه الإنفاق التى كان يذهب إليها الفائض من قبل التبرع فيقول هذا السؤال يحمل فى طياته اتهاما وأرفض الإجابة عنه.