رائحة الموت تنبعث من كل أروقة المكان.. فبمجرد أن تدخل مستشفى الهلال الحكومى تسمع همسات أرواح الشهداء يتجمعون حولك، ويطلبون منك القصاص لدمائهم الطاهرة.. يمر أمام عينيك شريط يتكرر مع ثوار شهداء أو مصابين مازالت أنفاسهم تتهدج وكلهم مجهولو الهوية، ومتعلقاتهم مفقودة. ذهبت إلى مستشفى الهلال.. المشفى الحكومى الذى يذهب إليه كل المصابين، فيخرجون منه شهداء لأرى ما يحدث بنفسى.. تجربة عايشتها بنفسى.. لأجيب عن كل الألغاز التى تدور حول ذلك المستشفى الذى تبدأ عنده الرحلة المشبوهة.. وتنتهى بالمشرحة.. البداية تواتر أخبار بأن مستشفى الهلال تضيع هويات أى مصاب أو شهيد يدخل إليه، إما عن طريق خطفها أو عدم الإبلاغ عن دخولهم من الأصل مما يؤخر تعرف ذويهم إليهم، كما حدث مع الشهيد محمد الجندى، والذى فقد جميع متعلقاته بما فيها بطاقته، وملابسه. وأيضا مع الشهيد محمد الشافعى الذى ظل مفقودا لمدة 26 يوما وضياع بطاقته، ودخوله المستشفى مصابا، وخروجه منها شهيدا بدون تسجيل دخول.
∎ داخل مستشفى الهلال
ذهبت بنفسى إلى مستشفى الهلال، فوجدته فى مدخله لا يختلف عن أى مستشفى حكومى ينقصه الكثير ليصبح فى مستوى أى مستشفى يصلح للعلاج.
أخبرتهم أن لى أخا مفقودا من أسبوعين فى إحدى المظاهرات، وأريد أن أعرف إن كان قد أصيب ودخل المشفى أم لا؟!
فنظر لى موظف الاستعلامات بنظرة تجاهل، وأشار لى نحو زميل آخر له، والذى ذهبت إليه بدورى وكررت عليه نفس السؤال فأخرج دفترين.. فنظر فى الأول المقيد به بعض الأسماء.. ونظر فى الثانى وسألنى عما كان يرتديه، فأجبته وهو لا يزال غير مكترث على الإطلاق.
وبعد فترة لا تتعدى الدقائق، نظر لى وقال: مش موجود عندنا، فبدأت معه الحديث حيث كان غرضى من الزيارة، والذى كان كالتالى:
∎ طب ما تخلينى أبص على الدفاتر يمكن ما أخدتش بالك..؟
- الموظف: ممنوع.
∎ طب ينفع اطلع أبص على المصابين، يمكن يكون موجود، وأنتم ما سجلتهوش..؟
- ما حصلش.. احنا بنسجل كل اللى بيدخل، ويخرج وحتى المجهولين.
∎ طب ما هو محمد الشافعى كان موجود هنا، وأهله دوروا عليه، وأنتم قلتوا لهم مش موجود..؟
- نظر لى بانفعال، وقال لى: ما حدش أصلا سأل عليه.
∎ ومحمد الجندى، ما هى مامته مالقيتش بطاقته..؟
- فأغلق الدفتر بانفعال شديد، وصرخ فى وجهى: امشى من هنا اعملى معروف، ماتودنيش فى داهية.. أخوك مش موجود، ولو موجود قسم الشرطة هيبلغك.
∎ طب عاوزة أقابل دكتور محمود الششتاوى- مدير المستشفى..؟
- وانتى مين انتى علشان تقابلى المدير، وبعدين أخوك هو اللى غلطان.. كان إيه نزله من الأول! امشى بقى بدل ما هضايقك.
فتركته.. ومشيت قليلا، ففوجئت بشئ غريب، هناك شخص يأتى نحوى ويهمس لى: إيه يا بنتى بس اللى جابك هنا انتى مش خايفة على شبابك، فقلت له: مش فاهمة، فأخبرنى أنه أحد العاملين فى المستشفى ورفض ذكر اسمه، فقلت له: انت ليه بتقول لى كدة.. أنا بدور على أخويا.
فقال لى بالحرف الواحد: روحى دورى عليه فى الأقسام، أو المشرحة، ولو هو هنا استعوضى ربنا فيه، فسألته: انت ما تعرفش تطلعنى أبص على المصابين، فنظر لى باندهاش وخوف وقال: أنا ممنوع حتى على أطلع هناك.. دول مراقبينهم وكأنهم أمن دولة، وابتعد مسرعا، ثم أتى فجأة وقال لى: - أقولك، روحى للتليفزيونات واطلبى منهم يساعدوكى.. هما هنا ما بيجوش غير بكده.
وبينما أفكر فى كلام العامل الكبير، فوجئت بفرد أمن يأتى ويقول لى: انتى واقفة هنا ليه يا آنسة، قلت له: وهو أنا عاملة لك مشكلة، فقال لى بلهجة غضب: اخرجى، ممنوع وجودك هنا، ولم يتركنى إلا بعد أن غادرت المشفى الذى أحسست بداخله أننى كنت فى ثكنة أمن دولة.
∎ الواقعة الأولى: الشهيد محمد الشافعى
الأربعاء.. 30 يناير دخول الشاب محمد الشافعى مصابا بثلاث طلقات، واحدة فى القلب واثنتين فى الرأس.. الخميس 31 يناير.. خروج الشهيد إلى مشرحة زينهم بدون تسجيل فى دفاتر المشفى، أو حتى فى دفتر المجهولين.
تقول السيدة أمل-والدة الشهيد الشافعى: مستشفى الهلال ومشرحة زينهم متواطئين مع الداخلية، وأحلف على ده.
ولدى كان هناك فى المستشفى، بالرغم من أننى ذهبت عدة مرات إلى هناك وسألت عليه لدرجة أن موظف الاستعلامات كان يصرخ فى ويقول: انتى مش لسة كنت هنا إمبارح، وقلت لك إنه مش موجود، وعندما كنت أطلب منه البحث بنفسى، كان يرفض.
وظللت على هذا الحال أنا وإخوتى حتى تورمت أرجلنا من البحث، فاتصلنا بالإعلام، والعديد من المنظمات الحقوقية والذين ساعدونا كثيرا.
وبعد الضغط والحصار الإعلامى ظهر جثمان ابنى بعد مرور أكثر من 26 يوما فى مشرحة زينهم، وعندما سألت عن مكان اختفائه المدة السابقة كلها، أخبرونى أنه كان فى مستشفى الهلال، على الرغم من أننى كنت أسأل عنه هناك يوميا.
والصدمة التى عرفتها أن جثمانه شرح هناك بالمستشفى، ثم أخذوا منه كل متعلقاته، وحتى ملابسه، ثم أرسلوه إلى المشرحة بلا أى شىء.
وتتساءل السيدة أمل: كيف لابنى أن يدخل المستشفى، ويتم تشريحه وأخذ كل متعلقاته بدون تسجيله، وعندما أذهب لأسأل عنه أكثر من مرة ينكرون وجوده؟!
∎ (الواقعة الثانية: الشهيد محمد الجندى)
تحدثت مع السيدة سامية الشيخ - والدة الشهيد محمد الجندى، والذى دخل المستشفى بعد أن تم سحله و تعذيبه، وادعوا فيه أنه توفى بسبب حادثة سير لكن الله نصر عبده وأبى أن يذهب حقه هدرا.
تقول والدة الشهيد: مستشفى الهلال لا يعمل إلا لحساب الشرطة، وكل المصابين فيه من أحداث التحرير، ويخرجون منه على المقابر، أو يظل مشلولا وفاقدا للذاكرة.
وأنا مكثت هناك فترة ورأيت بعينى ما يحدث، فبمجرد أن تدخل إلى العناية المركزة ترى أفراد الأمن الوطنى فى كل مكان، حتى السيدات هناك من الأمن ويرتدين زى العاملات والممرضات.
وقد عرفتهم مما يفعلونه، فلم يكونوا يتركوننى بمفردى مع ولدى، وكانوا يقولون لى دائما: ابنك لم يعذب.. لقد صدمته عربية، فكيف لعاملة أو ممرضة أن تتحدث عن حالة مصاب؟!
وكنت أتركهم يقولون ما يقولونه، لأجلس مع ابنى أطول وقت ممكن.
∎ (إدارة المستشفى)
وعندما سألتها عن الدكاترة، وكيف تعاملوا معها، أجابتنى قائلة: كل مكان فيه الحلو،والسيئ، وفى المستشفى كان نفس الأمر، فقد أحسست أن الأطباء يتكلمون بتكتم شديد، وتحت ضغط مثل: مدير المستشفى، ونائبه.
لكن كان هناك أطباء فى منتهى الأدب والطيبة، مثل: الدكتور عماد الذى ساعدنى ووقف بجانبى كثيرا، وصبرنى لدرجة أننى أخذت يده، ووضعتها على المصحف وجعلته يقسم على ألا يقرب أحد من ابنى، وبالفعل أقسم وطبق مناوبتين حتى يفى بقسمه.
أما بالنسبة لإدارة المشفى، فكان حصاره أشبه بالحصار العسكرى على ابنى.
وعن متعلقاته تضيف والدة الشهيد وتقول: عندما وجدت ابنى سألت عن متعلقاته، فقالوا إنها لم تأت معه متعلقات ولا حتى بملابسه ولا حذائه، لكن بعد وفاته وبعد الضغط الإعلامى أرسلوا لى بطاقته من المستشفى، وحسبى الله ونعم الوكيل.