أبي عام 2010م أن يرحل دون أن يقدم لنا هدية آخر السنة وهي عبارة عن حادث مأساوي وغير مسبوق في حقل التعليم الجامعي. كنا نسمع ونقرأ عن أولياء أمور يتوجهون إلي المدارس بهدف رد الاعتبار لأبنائهم الذين يتعرضون للضرب أو الإهانة سواء من أقرانهم أو معلميهم. لكننا لم نسمع عن حدوث مثل هذه التجاوزات في حق أساتذة الجامعات. إن الحدث الذي شهدته جامعة إقليمية في الدلتا يعتبر غريبا ويصعب تخيله وبالفعل يستحق أن يقف المجتمع حياله للتأمل والتدبر عسي أن يعثر علي البوصلة المفقودة التي قد تحمل البلاد لبر الأمان. ماذا حدث في هذه الجامعة؟ يوم الأحد 19 ديسمبر كانت أستاذة ورئيسة قسم بكلية الآداب تلقي محاضرة عندما دخل شاب في مقتبل العمر وخطيبته الطالبة بالكلية قاعة المحاضرات وجلسا معًا في المقاعد الخلفية حيث يتعذر علي الأستاذ المحاضر رؤية ما يحدث خاصة إذا كانت القاعة مكتظة بمئات الطلاب. المهم بدأ الشاب في التدخين والتهكم علي المحاضرة التي لم يأت للاستماع إليها مما أغضب طالبتين كانتا تجلسان علي المقاعد المجاورة، فتقدمتا بالشكوي للأستاذة التي طلبت من الشاب تقديم إثبات الشخصية حينئذ هددها الشاب قائلا "إنتي مش عارفة أنا مين؟ دا أنا هاربي أهلك"، وفوجئت به يتعدي عليها بالضرب بقدمه، وبسبها بألفاظ خارجة مما دعاها لطلب الحرس للتعامل مع الشاب الذي تبين أنه ضابط شرطة برتبة ملازم أول. لقد عملت في الجامعة أكثر من ربع قرن ولم نسمع عن أستاذ جامعي أو حتي معيد تعرض للضرب أو الإهانة بالسب والقذف داخل أسوار الجامعة. الغريب أن تتعرض هذه الأستاذة للإهانة في مدرج الجامعة وفي حضور نحو 700 طالب مما دفع الدكتورة الضحية لأن تصرح بأنها لم تعد تصلح رئيسة قسم ولا حتي أستاذة في الجامعة. وفي الواقع نحن نلتمس العذر للدكتورة التي خاضت هذه التجربة المريرة غير أن ما يخفف وطأتها هو أن الحرس الجامعي لم يتقاعس عن إلقاء القبض علي الشاب وسرعة تقديمه للنيابة التي أمرت بحبسه علي ذمة التحقيق وتقديمه لمحاكمة عاجلة. من المفيد أن نؤكد هنا أن هذا الشاب لا يمثل جموع ضباط الشرطة الشرفاء المخلصين الذين يحترمون القانون. ولا يستطيع أحد أن ينكر دور الشرطة في الحفاظ علي أمن المواطن والوطن، فكلاهما وجهان لعملة واحدة: فلا وطن إذا افتقد فيه المواطن الإحساس بالأمن. كما أن المواطن يفقد صفة المواطنة إذا لم يوفر الوطن الأمن والأمان. لا شك أن هنالك نماذج لا حصر لها لرجال شرطة قدموا حياتهم دفاعا عن مواطنين أبرياء غير أن هنالك فئة قليلة من صغار الضباط لا تستوعب حجم مسئولية الوظيفة الأمنية. يقول بوب هيربرت في صحيفة نيويورك تايمز الصادرة في 7 مارس 1997م إن رجال الشرطة الذين يخرقون القوانين لا يقدمون أية فائدة للمجتمع، بل إن سلوكهم وتصرفاتهم تقلل من قيمة الجهود الحقيقية التي يبذلها المخلصون من أقرانهم. إن الامتثال للقانون واحترامه يعد جزءا لا يتجزأ من كيان رجل الشرطة الذي يحترم وظيفته، فلا يأتي بأفعال من شأنها أن تقلل من قدرها. لكن يبقي السؤال لماذا سلك شاب صغير هذا المسلك لا سيما أن والده أستاذ في ذات الكلية التي تعمل فيها الأستاذة؟ لعل القارئ قد توقف عند عبارة"إنتي مش عارفة أنا مين؟" التي أطلقها الشاب في وجه أستاذة جامعية زميلة لوالده في الكلية وتقوم بالتدريس لخطيبته الطالبة في القسم الذي تتولي الأستاذة رئاسته. وهذه العبارة توضح لنا أن الشاب يظن أن دوره أصبح أكثر أهمية من دور والده الذي كان من الممكن أن يكون المحاضر في ذلك اليوم المشئوم. قد يقول قائل- وهذا صحيح- إن العمل الشرطي يعتبر من الوظائف التي تمثل عبئا ثقيلا علي الجهاز العصبي حيث يواجه المرء يوميا ضحايا القتل والعنف والحوادث وخلافه وهذه الضغوط المتراكمة عبر عشرات السنين تترك أثرها علي شخصية الشرطي مهما تمتع من صحة وتوازن نفسي ومهما كان مدربا، وعلي حد قول عالمة النفس الأمريكية بيفرلي أندرسون فإن طبيعة العمل الشرطي قد تغيرت بشكل ملموس خلال السنوات الماضية حيث إن إدارات الشرطة في العالم الغربي تبادر بتقديم خدمات نفسية لرجال الأمن وعائلاتهم. نحن في حاجة إلي علماء نفس يقدمون لنا شرحا وافيا عن التغييرات النفسية التي تطرأ علي شاب كان بالأمس القريب يتلقي المصروف من والده ثم فجأة وجد نفسه في وظيفة مرموقة يخشاه الناس ويخاطبونه بألقاب كانت متداولة في العهد الملكي. ويبقي سؤال آخر يبحث عن إجابة: هل هناك إعداد نفسي يواكب هذا التحول في حياة شبابنا الصغار الذين يجدون أنفسهم في مواقع السلطة