السياسة ليست مهنة ولكن مهمة شر البلية ما يضحك، وشر السياسة السذاجة.. وفي تفاعلات الساحة المصرية كثير من المبليات والسذاجات.. المضحكات التي تستحق أن نذرف الدمع تعاطفاً لا سخرية، حزناً علي فئات من النخبة وتصرفاتها، واكتئاباً من مواقفها غير الناضجة، ورفضاً لسلوكها المسبب للجمهور.. فالرأي العام في نهاية الأمر يريد معارضة حقيقية تفيد البلد وليس تلك التي تصنف علي أنها «بلية». ليس لدي موقف شخصي من الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية المتخصص أصلاً في العلاقات الدولية، والذي أقحم نفسه في الشئون السياسية الداخلية بعد أن فاته التميز أكاديمياً في مجاله، ولكنني أعتبره مثالاً علي ما اعتري النخبة من متاعب ومشكلات، وما تتسم به من متناقضات، هو يثبتها كل يوم، بحيث يعتبر نموذجاً مؤسفاً لما جري لها وما ينبغي علينا أن نسعي إلي التخلي عنه. لقد احترف الدكتور نافعة الاعتذارات المتوالية، وها هو بعد مقاله يوم الأحد الماضي الذي يعترف فيه بنكوص رؤيته وتحليله لموقف وتصرف الجمعية الوطنية للتغيير، ذلك الذي أسماه (اعتراف واعتذار) يعود مرة جديدة ليوضح ما قصد وما لم يقصد، ويسجل مشكلته في أن البعض يريده أن يعتذر عما اعتذر عنه، بينما نسي هو ومن طالبوه بذلك أنه كان قد اعتذر وعاد ليعتذر عما اعتذر.. وقد كرر هذا مرات. ما يؤسفني في هذه الاعتذارات المقالات أكثر من أمر: إن هناك من يعتقد أن الظهور الإعلامي، صحافة وتليفزيوناً، إنما يكفي لكي يحول الذي يظهر إلي سياسي.. لقد اعتقد الأكاديمي غير المتخصص في الشئون الداخلية أن مجرد تواجده في بعض البرامج وتبنيه لموقف بعد أن انقضي قطار عمره العلمي إنما يكفي لأن يتحول إلي سياسي بمجرد أن يطلب منه أحدهم ذلك أو يقترحه عليه. هنا أنا أرصد الحالة من خلال المقالات الاعتذارية التي يكتبها.. ويلفت النظر فقدانه لتعريف السياسي.. وكيف يتكون وبأي طريقة ينمو ويكتسب مؤهلاته.. وكيف أنه لا يمكن للمكتبي أن يصبح هكذا بمجرد الرغبة من كاتب وباحث إلي سياسي وقائد لعملية تغيير أو مجرد منسق في جمعية تقول إنها تغير.. أو تريد أن تغير البلد. السياسي مجموعة متحصلات من الموهبة والقدرة والخبر والتفاعل المستمر من وقت مبكر وعبر آليات وكيانات، وهو كذلك تعبير عن فئة قبل أن يكون تجسيداً لطموح شخص، السياسي الذي يعبّر عن رغباته فقط يبقي معلقاً في الهواء الطلق، ومن ثم حين تعصف به عبارة أو كلمة فإنه لا يتحمل نفخة، ويعتزل ويعتذر ويتراجع. - لقد كتب الدكتور نافعة في مقالاته إن السياسة مهنة.. وهذا غير صحيح.. السياسة مهمة، لا يتم الكسب من السياسة أو حصد الأجر عنها، إلا إذا كان الدكتور المتكرر الاعتذارات يقبض من الجمعية الوطنية للتغيير، خصوصاً أنه قد عبأ مقالاته الاعتذارية بأحاديث عن أن أمامه فرصاً وعنده طموحاً مشروعاً وأشياء من هذا القبيل الذي يعكس تصوراته للعمل السياسي. السياسة بالتأكيد تصنع المكانة، وهي أيضاً تقود إلي المناصب، خصوصاً إذا كان من يمارسها ينتمي إلي حزب أو كيان قانوني، ولكنها ليست مهنة، ومن ثم لا يمكن استبدال العلمي الأكاديمي بالسياسي، وأغلب الذين أعرفهم من الأكاديميين الذين يمارسون السياسة لم يتخلوا عن المهام العلمية من أجل السياسة.. هذه قد تفيد تلك ولكنها ليست بديلاً لها.. لأن السياسة ليست وظيفة وإنما قدرة علي العمل العام والتطوع والتعبير عن رؤية متماسكة أياً ما كان تصنيفها. - إن السذاجة لا تصلح في عالم السياسة، والرومانسيون الحالمون المتخبطون لا مكان لهم في الساحة، خصوصاً إذا كانوا يتصدون لمواقف يدعون فيها علي الناس أنهم سوف يذهبون بهم إلي آفاق أوسع وإصلاح أبعد.. بمعني أوضح أنه إذا كنت تتصدي لمهمة عامة وشأن سياسي فيجب أولاً أن تحسم أمورك تماماً قبل أن تحاول إقناع الناس.. لأن الناس لن يقبلوا أن يأتي أحد ليطرح عليهم أمراً ثم يتراجع عنه.. ويقول لقد اكتشفت وقد تبين لي وقد اتضح ما كنت لا أعرف. المراجعات في السياسة واجبة، ومن الأصل فيها أنها تستوجب إعمال العقل من وقت لآخر، ومصارحة الجمهور، لكن هناك فرقاً بين مراجعات المواقف والتراجع عنها.. الأخير يعني أن من قال إنه سياسي أو توهم ذلك إنما لا يتسم باكتمال الرؤية وأنه كان يجرب في نفسه وأخذ الناس إلي تجربة معه دون أن يقول لهم في البداية إنه يجرب أو إنه يحتمل أن يفشل.. السياسي لابد أن يكون صلداً قادراً علي أن يصلح أخطاءه بمواصلة العمل وليس بالانسحاب تلو الآخر. هذه الملاحظات لا تعبر عن حالة الدكتور حسن نافعة وحده وإنما تعبر عن جيل كامل من المعارضين الذين خلطوا الشخصي بالعام ومزجوا السذاجة بالسياسة وتصدوا للعمل العام بدون تأهيل وتصوروا في أنفسهم إمكانيات ليست لهم وأعطوا لأنفسهم أدواراً لم يكونوا قادرين عليها.. فأحبطوا وراحوا يبررون إحباطهم.. وبعد أن قالوا للناس كلاماً وحاولوا أن يقودوهم إليه فإنهم تراجعوا وأخذوا يبررون مواقفهم كما لو أن علي الناس في كل الأحوال أن يصدقوهم ويعذروهم. التصدي للسياسة يعني أن تكون قادراً علي صنع موقف والدفاع عنه، يعني أن تؤمن بأنه قد تأتيك ثقة الناس في لحظة لكي تقوم بدور يقود هذا البلد، يعني أن تكون مستعداً في أي وقت لأن تتصدي للقيادة أياً ما كان موقعها.. لو لم تكن كذلك.. فإنك تمارس الهذر.. وإلا فليقل لي حسن نافعة ومن يشابهونه لماذا يقومون بكل هذا الصخب.. وهم غير قادرين علي تحمل تبعاته ومسئولياته.. هل يريدون من الناس أن يصدقوهم ثم يتركوهم في الفراغ والهواء الطلق.. ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أن فئة من الرأي العام قد آمنت بما يقول هذا أو من يماثله.. هل كان عليهم أن يمضوا وراء التفاهات التي لا تنتج غيرها اجتماعات الجمعية الوطنية للتغيير - كما وصف حسن نافعة نفسه ما يجري في تلك الاجتماعات. إننا أمام فئة من الناس لا تعرف ماذا تفعل.. تتميز بالعبث.. وتقول ما لا تقوي عليه.. وليست قادرة حتي علي أن تدافع عن اتجاهات تبنتها ومواقف سلكتها.. فكيف بهم يريدون من الناس أن يصدقوهم.. ألا يدرك هؤلاء أن السياسة تقوم علي الثقة.. حتي لو كان من نثق فيه يتبني مواقف لنا عليها ملاحظات.. كيف يمكن أن يغامر الناس مع هذه النوعية من رافعي الشعارات.. ولماذا يتساءل بعض هؤلاء في بعض الأوقات عن عدم استجابة الناس لهم؟ ببساطة الناس يعرفونكم.. ويدركون كيف أنكم تقولون كلاماً فارغاً.