كثيرا ما كنت أتساءل، هل مقاييس التراجيديا القديمة تصلح للتطبيق علي بطل الدراما التقليدية المعاصرة؟ هل بطل الفيلم الذي ينتهي به الأمر بكارثة، تكون هذه الكارثة من صنعه هو ونتيجة لعنصر نبيل بداخله؟ هو فيلم فرنسي قديم عن سائق سيارة تنك يقودها عبر أوروبا، ولأنه يريد أن يعود إلي حبيبته بأسرع وقت لذلك تجاوز السرعات المسموح بها، كانت النتيجة أن اشتعل تيل الفرامل، رأي شرارة من النيران من خلال المرآة الجانبية، من المؤكد أن السيارة ستنفجر بعد لحظات، هو يمر بمدينة صغيرة يخترقها الطريق الدولي السريع, المنازل علي الجانبين، كارثة فظيعة علي وشك أن تحدث، قاد السيارة بسرعة بين المنازل علي أمل الخروج إلي الخلاء قبل انفجار السيارة, وبعد خروجه من الشارع إلي الخلاء بلحظات، انفجرت السيارة، لم يصب أحد من أهل المدينة، كان هو المصاب الوحيد, يتم نقله إلي المستشفي ويتم علاجه غير أنه لم يعد يصلح لقيادة السيارات كما استولي عليه ضعف جنسي شديد ترتبت عليه تلك المشاكل النابعة من التعاسة الزوجية، لا داعي لسرد بقية تفاصيل الفيلم لأني نسيتها، كل ما أذكره أنه قتل زوجته بدافع من الشك والغيرة. عندما تطبق علي البطل المقاييس الأرسطية للتراجيديا، ستجدها صحيحة. لقد تجاوز السرعات المقررة له بدافع يظنه نبيلا، أن يعود في وقت أقصر إلي حبيبته، وهو أيضا شخص نبيل لأنه غامر بقيادة السيارة بأسرع ما يمكن وهي مشتعلة، لكي ينقذ الآخرين، فكان الثمن المدفوع أيضا باهظا للغاية. ولكن هناك سائقا آخر ليس بطلا لفيلم، بل من هؤلاء السائقين البسطاء الذين تشتمهم الصحافة كل يوم لرعونتهم واستهتارهم, وهو لم يخطئ، لا خطأ تراجيدي ولا حتي خطأ بطيخي، كان في محطة بنزين، لا أعرف هل كان يفرغ حمولته أم يمون سيارته، وأراد عامل المحطة أن يتبين شيئا بوضوح, ربما كان أحد العدادات، وبكل ما بداخله من جهل وأمية، أخرج ولاعته وأشعلها لكي يستخدمها كمصدر للضوء، فاشتعلت النيران علي الفور في جزء من السيارة، هذا العامل، هل علمه أحد أنه ممنوع منعا باتا إشعال أي شئ في محطة بنزين؟ و أن ما يشتعل ليس هو سائل البنزين بل الأبخرة المنبعثة منه. لحسن الحظ، أدرك السائق أنه لا أحد علي الأرض يستطيع منع هذه السيارة من الانفجار، لذلك صعد إلي الدريكسيون وقاد السيارة بسرعة إلي الطريق الدائري بعيدا عن المكان لتنفجر بعيدا عن الناس، غير أنه لحسن الحظ تمكن من النزول منها قبل أن تنفجر. وصفته الجرائد بأنه بطل، فهل هو بطل فعلا بمقاييس هذه الأيام الحضارية والثقافية؟ هل هو ضد قوي الاستعمار والتكبر؟ هل هو ضد التطبيع؟ هل هو ضد أمريكا؟ ما رأيه في فشل الرئيس أوباما في حل المشكلة الفلسطينية؟ هل هو ضد رأس المال المستغل؟ هل هو ضد صفقة بيع عمر أفندي؟ مع أي جانب هو في الصراع الدائر في الحزب الناصري، وما رأيه في حكاية النواب الوفديين المطلوب خروجهم من الحزب؟ إذا طبقنا هذه المقاييس عليه فسنحرمه حتما من هذا اللقب. الواقع أنه بطل فعلا، لأنه فكر بشكل غزيزي في إنقاذ الآخرين، هو بطل لأنه احترم شرف مهنته. هذا هو معني البطولة هذه الأيام لا أكثر، أن تقوم بعملك بكفاءة وإخلاص. لا نجاة لأحد في مصر في وجود هذه النسبة المرتفعة للأميين، واحد فيهم سيشعل ولاعته في محطة بنزين وأنت تقف فيها.