تصير رواية المستقبل أحيانا مرتبطة عند البعض برواية الخيال العلمي أو الرواية التفاعلية التي تستفيد من إمكانيات الانترنت. وتجدهم يتحدثون عن التطورات التكنولوجية المتسارعة وكيف ستؤثر في حياة الإنسان وطرق تفكيره، وبالتالي ستؤثر في شكل الرواية وطرق تلقيها، واضح هنا في هذه الرؤية أن الرواية تابعة لتلك التطورات..ستتبدل وتتغير حسب ما يجد علينا من أجهزة حديثة وأشكال جديدة من الثورة التكنولوجية، بل تمتد هذه الرؤية إلي الإنسان الذي يبدو من هذا المنظور مجرداً من الذاكرة والأحاسيس والمشاعر وتدفعه الآلات الحديثة دفعا حتي وهو يبدع، قد تتغير بالفعل حياة الإنسان وتطرأ عليها تطورات هائلة. وقد تنشأ أشكال فنية مرتبطة ومتأثرة بالتطورات التكنولوجية، لكن ما دمنا في مجال الرواية فيجب ألا ننسي أن هذا النوع الروائي له تاريخه الخاص الذي تراكمت فيه إمكانيات فنية متعددة، ويطرح أمام كل كاتب تحديات وإشكاليات وأسئلة نابعة من هذا التاريخ النوعي. قد يضيف المستقبل إلي الروائي الكثير من التجارب الحياتية الجديدة لكنه عند تشكيلها روائيا، فإنه لا يلهث وراء الآلة بل يحاور ويفكر علي أرضية تاريخ النوع الروائي مادام أراد واختار أن يكتب داخل هذا النوع، وعندما ننظر للنماذج المتاحة من روايات الخيال العلمي عربيا، نجد أن موضوعها مضمونه متقدم أو يوهم أنه ابن الثورة العلمية، لكنها علي مستوي التشكيل نجدها تلتمس تقنيات فنية عفي عليها الزمن أو لا تنشغل أصلا باستكشاف رهانات جديدة في الشكل الروائي. والأكثر من هذا نجدها تعتمد علي رؤية تناقض تعقيدات الاكتشافات العلمية لتصير مجرد رؤية أحادية تريد توصيل رسالة ما أو لا تقدر علي التعامل مع المناطق الشائكة داخل الإنسان. عندما فكر إيتالو كالفينو قرب نهاية القرن العشرين في الوصايا التي يمكن أن يحملها معه المبدع في الألفية الجديدة، فإنه فكر في عدد من القيم الفنية التي رأي أنها تكسب الأعمال الإبداعية قيمة، وهي التي تفتح أمام المبدع آفاق الخيال والإبداع وشكلت هذه القيم كتابه «ست وصايا للألفية القادمة» وهي «الخفة والسرعة والدقة والوضوح والتعددية «الاتساق» ولم يسعفه العمر لكتابة الوصية الأخيرة الخاصة بالاتساق، ونبعت تلك الوصايا من تأمله في نماذج شعرية وروائية وقصصية من عصور مختلفة. ورأي تلك القيم تجري مجري الدم في تلك النصوص التي مازالت تشدنا ونقبل علي قراءتها رغم الفارق الزمني الكبير الذي يفصلنا عنها، ورغم ما جد من تطورات علمية مذهلة لم يسمع ولم يتخيلها كتاب هذه النصوص، إن من أسباب إقبالنا علي قراءتها تعاملها مع الإنسان علي أن لديه دائما أسئلة شائكة وملتبسة لا يستطيع العلم مهما تقدم أن يجد لها حلا نهائيا. بل تظل تشغل الإنسان ولا تبلي من كثرة محاولات المبدعين من الخوض فيها، وترد علي ذهني فورا من تلك الأسئلة العلاقة بين الموت والحياة وعلاقة الإنسان بالزمن وعلاقته بذاكرته وسؤاله الدائم كيف يحيا حياته، هذه الأسئلة قد يضيء بعض جوانبها العلم بتطوراته واكتشافاته، لكنه لا ينهيها بإجابات حاسمة باترة. وعندما تشغل تلك الأسئلة الروائي فقد يفيده العلم بمعلومات، لكن كمستوي أولي أو علي مستوي التحضير لعمله الروائي، لأنه بعد ذلك لن يفكر في تلك الأسئلة بمعزل عن عمله الروائي الذي يحاول تشكيله أو بمعزل عن رهاناته الفنية التي يحاول المغامرة معها. بل سيبحث في تلك الأسئلة علي حد تعبير كونديرا عما تستطيع الرواية وحده أن تقوله أو تظهره، ويمنحها القدرة علي البقاء وعلي حاجة الإنسان لها دائما.