أواصل حديثي عن واحدة من أهم القضايا المصيرية بالنسبة لمجتمعنا، حاضرا ومستقبلا هي قضية التعليم في هذا المقال أود أن اقترب من عنصر مهم حيوي من عناصر العملية التعليمية وهو المعلم. سعدنا كثيرًا باهتمام وزارة التربية والتعليم بتحسين أحوال المعلم المادية، وهي من الأمور التي يجب الاعتناء بها باستمرار، لأن طبيعة رسالته - ولا أقول فقط وظيفته - تقتضي تحقيق مستوي معيشي لائق بالنسبة له، حتي لا يصرفه اللهاث وراء لقمة العيش عن دوره الأساسي في تنشئة مواطن مصري قادر علي التفاعل مع متغيرات العصر علي نحو ايجابي مبتكر. في الواقع فإن الاهتمام بالمستوي المادي للمعلم يعد أحد جوانب قضية المعلم - إن صح التعبير - ولكن ستظل هناك جوانب أخري لا تقل عنها أهمية. فمن ناحية لا يجب أن يكون تقييم المدرس أو المعلم فقط بمقدار ما يحصده من معارف في مجال تخصصه، أو بمقدار ما يزيده علي حصيلة علمه في هذا التخصص أو ذاك، فهناك الكثير مما يمكن أن يزداد به علمًا في شتي فروع المعرفة الإنسانية فالثقافة في مختلف العلوم تنير الذهن، وتجعله في حالة انفتاح وتجاوب إنساني أكثر عمقا وإبداعا. أيضا تقييم المعلم أو المدرس ليس فقط بما يخزنه في عقله من معارف في مجال تخصصه العلمي أو الأدبي لكن أيضًا بقدرته علي التعليم، والتواصل مع الدارسين، وتوصيل المعلومات إليهم علي نحو يساعدهم علي الفهم والإدراك، وفي الوقت ذاته تشجيعهم علي الاقبال بحماس وتنشيط قدراتهم علي التجاوب مع العملية التعليمية. ويعد تهيئة مناخ يساعد ويشعل الشغف إلي المعرفة في أعماق الدارسين عنصرا أساسيا في العملية التعليمية لا يقل أهمية بأي حال من الأحوال عما تحويه المقررات الدراسية من معارف ومعلومات. والاهتمام بأساليب ومهارات توصيل المادة العلمية للدارس يتطلب مناخا يساعد عملية التعلم ذاتها علي أن تسري بانسيابية، وتدفق بناء، وتفاعل حقيقي جاد، وإذا لم يكن هناك مناخ ملائم للتعلم فإن ذلك قد يؤدي إلي عرقلة مسار التدفق المعلوماتي والإنساني من المدرس إلي الطالب. ومن الطبيعي أن تتعدد عناصر مناخ التعلم منها كيفية جلوس الدارسين وأساليب الإضاءة والتهوية إلي جانب آليات التواصل بين المعلم والدراسين. في تقديري أن تحضير المعلم للدرس يجب ألا يقتصر فقط علي إعداد المادة العلمية، أو تجهيز المعلومات التي سوف ينقلها إلي الطلاب، ولكنه يشمل كذلك التخطيط لمناخ العملية التعليمية وكيفية توصيل المادة لذهن الدارسين علي نحو مشجع ومحفز لهم للتفكير والتفاعل والتواصل، في أحيان كثيرة لا تجد المادة العلمية ذهنا صافيا مستقبلا لدي طلاب نظرا لأن هناك في المناخ المحيط بالعملية التعليمية الكثير من العوامل المثبطة، التي تشرد الذهن، وتحبط نفسية الطالب والمعلم علي السواء. وإذا كنا نتحدث عن المعلم، دوره ورسالته وإعداده، فإنه من الملائم الاشارة إلي قضية أساسية كثيرا ما تخفت الأصوات المطالبة بها في ضوء تصاعد الخطاب الداعي إلي تطوير التعليم في جانبه المادي فقط المتمثل في المقرر، والفصل، والمبني.. إلخ، وذلك دون الاهتمام بنفس القدر بالمنهج الخفي في العملية التعليمية، وهو سلوك المعلم، وطبيعة علاقته بطلابه، ونماذج التنشئة الاجتماعية التي يرتكن إليها، وأسلوبه في الحوار، والسلوك الشخصي في ردود أفعاله، وفي اللغة التي يستخدمها مع الدارسين. وفي علاقاته الموضوعية المتوازنة معهم دون تمييز بينهم لأي سبب من الأسباب. فالسلوك التربوي يأتي علي نفس القدر من الأهمية مقارنة بما يجب أن يشتمل عليه المعلم من قدرات علمية وعملية. المعلم في المقام الأول نموذج حي بالنسبة لطلابه، يمكن أن يكون نموذجًا إيجابيا، ويمكن أن يكون نموذجًا سلبيا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال افتراض واقع ميكانيكي لا يحدث فيه المعلم أي تأثير علي طلابه. إذ إن التفاعل الإنساني داخل قاعات الدرس وخارجها لابد أن يكون له مردود ما، سلبيا كان أم إيجابيا، وكم من أفكار ناهضة وخبرات إنسانية عميقة تشربها الطلاب من معلميهم، والعكس صحيح، كم من أفكار مغلقة ومتعصبة وجامدة دست في عقول وأفئدة الطلاب علي يد معلميهم. والخلاصة فإنه في قضية المعلم - تحديدًا - فإن الاهتمام المستمر به هو من أهم عوامل نجاح العملية التعليمية، سواء علي صعيد العائد المادي الذي يتحصل عليه أو علي صعيد معارفه العلمية، وذلك من خلال إمداده بكل ما هو جديد في مجال تخصصه، أو بالأساليب المتميزة والجديدة والمبتكرة في مجال توصيل المعلومات وتهيئة المناخ المناسب لعملية التعليم، مع مراعاة طبيعة واتجاه النموذج الذي يقدمه المدرس لأجيال وشباب ورجال المستقبل.