شاعر ومفكر وإنسان لا يشبه غيره من الشعراء والمفكرين والبشر، استقبلته الأرض في السادس من ديسمبر سنة 1883، مرحبة بهبة السماء؛ جبران خليل جبران. يمثل شعراء المهجر ظاهرة فريدة في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، فهم ثمرة ناضجة لقطاع عريض لم يتسع له المشرق العربي لأسباب شتي، تتراوح بين القهر السياسي والاحتياج الاقتصادي والضغوط الاجتماعية، ولأن أرض الله واسعة، فقد توافد الآلاف من أبناء الشام إلي العالم الجديد الواعد، بحثًا عن مستقبل بديل في أرض أقرب إلي البكارة، وانهمكوا هناك في العمل والبحث عن الرزق، حاملين الوطن في قلوبهم، وتشكل منهم مجتمع فيه من ملامح الشرق والغرب اختلاط وتداخل، تجسد في نصوص نثرية وشعرية ذات مذاق مختلف، وفي طليعة هؤلاء المبدعين جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة وإلياس فرحات وغيرهم. أعظم ما يتسم به جبران هو ذلك الحس الإنساني المرهف الذي يتجاوز الثنائية الصدامية بين الشرق والغرب، وقد كتب بالعربية والإنجليزية، لكن المشترك بين اللغتين هو الطموح النبيل للتعبير عن الهم الإنساني، فالهجرة في عالمه الثري ليست معطي ماديا عابرا سطحيا، بل هي في جوهرها رحلة مضنية مضيئة للبحث عن كل ما يجعل الإنسان إنسانا. قد يكون صحيحًا أن الشاعر يتفاعل مع هموم مجتمعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكن المهمة الأولي والأسمي له هي التعبير عن الهم الإنساني والأشواق الروحية. في كتب التاريخ والأدب، وفي الصحف والمجلات، نجد ترجمة أمينة للأزمات الاقتصادية والصراعات السياسية والتحولات الاجتماعية، والشعر وحده هو المعبر برهافة عن جلال وروعة الإنسان، بكل ما يعتمل في أعماقه من هموم لا تهمل الماديات ولا تقنع بالوقوف عندها. قراءة جبران، نثره وشعره، فعل يشبه العثور علي واحة خضراء في صحراء جرداء، حيث التقاط الأنفاس والتزود بما يعين علي مواصلة الترحال واختراق الصعاب، وضع يده علي الجوهر، وبرع في الهمس الذي لا يعرف الصخب والضجيج والزعيق، ولذلك يبقي معاصرا بلا ذبول أو ترهل، وطازجا منعشا كأنه يعيش في الشارع المجاور لقارئه!