بقلم : د / عايدة نصيف أتأمل الآن ما يحدث ببعض الشباب المسيحي من ترسيخ لمفاهيم العنف والتعصب والطائفية، فقد شاركت منذ أيام قليلة في مؤتمر من مؤتمرات الهيئة القبطية لدعم ثقافة التسامح والحوار والتفكير النقدي برئاسة القس الدكتور اندريه زكي مدير الهيئة ونائب الطائفة الانجيلية، وبعد اليوم الأول من المؤتمر الذي كان موضوعه يدور حول دعائم الحوار المجتمعي والعمل علي ترسيخ قيم الحوار والتفكير النقدي الإيجابي، حيث التقي الكثير من المثقفين والإعلاميين والشيوخ والقساوسة من معظم الطوائف حول منهجية (الحوار والتفكير النقدي) من خلال العقل لانعكاس ذلك علي المواطن في تفاعله مع مجتمعه بصورة إيجابية وبناءة تساهم في عمل ايدلوجية تقترب من الرقي. فبعد انتهاء جلسات ذلك اليوم قرأت الجرائد اليومية وشاهدت الأخبار المحلية فوجدت عنوانًا يتصدر الصحف (أحداث طائفية مشتعلة وايام عصيبة) وموجهات دامية بين الأمن وبين متظاهرين أقباط معظمهم من الشباب بسبب وقف بناء (مبني كنسي) وتبادل الاتهامات بين المحافظة والكنيسة،وعدد من المتظاهرين يصل عددهم حسب ما ذكر في الجرائد المختلفة ما بين 3000 و5000 شاب، يرددون (نفديك بالدم ياصليب). واتساءل من اين اتي هؤلاء الشباب بذلك العدد؟ ومن الذي اتي بهؤلاء الي العمرانية بالجيزة؟ هل اُستدعوا بسرعة من هنا وهناك ليخربوا ويشيعوا الفوضي في كل مكان؟ وهل تنجح الكنيسة في استدعاء 3000 شاب ليحضروا اجتماعا لدراسة الانجيل، او العقيدة الارثوذكسية،او للصلاة من اجل الذين قتلوا ليلة عيد الميلاد في نجع حمادي او في العراق ؟ أو آلاف القتلي في فلسطين والدول الأخري؟ وكم شابا من هؤلاء يحضر القداس في كنيسة العذراء والملاك بالعمرانية بانتظام وانتباه، واشتراك في الصلوات وهل الكنيسة تشجع الان لا علي الايمان بالمسيح بل الايمان بالعنف والاعتداء؟ وتعجبت كثيرا من هذا المشهد الذي أصبح ثقافة هؤلاء الشباب الا وهي المظاهرات والعنف؟ فالمظاهرات التي يقومون بها وترديدهم (نفديك بالدم ياصليب) ليس ذلك من اجل الصليب وليس ذلك من اجل الله، ولكن من اجل التعصب الذي زرع في نفوسهم، فاذا كان هناك حب وفداء من أجل الصليب ومن أجل الله فالتصرف لا يكون بتلك الالية القبلية بل بالتسامح عن طريق الحوار مع القنوات الشرعية، وإذا تعذر ذلك فيمكن القيام بوقفة سلمية، وتعليق لافتات للمطالبة بما يريدون وذلك علي سبيل المثال. فالمسيحية زاخرة بالتعاليم والتوجيهات والارشادات علي مستوي التجربة الحية، وهي أيضًا مملوءة بالامثلة والنماذج الناطقة بالمحبة والتفاني من اجل الإيمان وكلها آية لعزاء المجاهدين (والجهاد هنا بالمعني الروحي لاقامة علاقة مع الله لا العلاقة مع اشياء مادية غير مجدية) ولذلك فما علاقة بناء مبني بحب الله والصليب؟، فهل عدم الحصول علي تراخيص بناء دور عبادة او تحويل مبني خدمي من جهة الشكل الي دور عبادة يضعف من حب المسيحي لله وللصليب ؟ فثقافة العدوانية والعنف اصبحت الصفة الغالبة علي هؤلاء الشباب وذلك من واقع خبرتي معهم في المجال الكنسي. وعلي الوجه الآخر من هذا المشهد السابق جاء اليوم الثاني من المؤتمر ليناقش قضية التفكير النقدي والحوار وكيف يساهم في تغيير المجتمعات وتربية الشباب تربية واعية مدركة لحقائق الامور، وأثر ذلك علي تأسيس قيم بناءة تدعو الي نقد مايحدث ولكن النقد الايجابي القائم علي فرز الصالح من الطالح، وكم كانت المفارقة كبيرة في نفسي من هيئة تنويرية وتنموية تعمل علي ارساء التفاهم والحوار بين المختلفين وايجاد ارضية مشتركة، وبين اتجاه يعمل علي تنمية الروح الطائفية والعزلة عن المجتمع. والانفصال والانكماش بهذه الصورة امر خطير علي المواطن الشاب، فان مثل هذا الاتجاه في التعليم سيجعله حتما شابًا غير متجاوب مع مجتمعه وشعبه وبلده، يأنف من الاخرين ويجعله يتوقف بالتمييز بين ما هو مسيحي وما هو مسلم، بين دور العبادة ما بين مسجد وبين كنيسة، ولا يفرق بين قادة لا يراعون المستوي النفسي للمتدين، وقادة يساهمون في ارساء القواعد الايمانية الحقيقية المنطلقة من النص المقدس، وبين جماعة هم مصدر الفتاوي الدينية الجاهلة يروجون الاشاعات عن الاضطهاد حتي يثبتوا وجودهم كمدافعين عن الدين؛ لينالوا بعض الحقوق وسط الجماعة او يحتفظوا بمظهر المتدينيين كانعكاس لعناصر نقص خاصة عندهم، وبين جماعة اخري تحب الله من كل القلب وتعمل علي تربية الشباب تربية دينية اخلاقية. فإثارة الشغب لبناء قبة ووضع صليب في اعلي المبني المخصص للخدمات ليس دليلاً علي اقامة علاقة قوية مع الله، وكأن الله يوجد في مكان دون الآخر طبقا لروح التعصب والفداء من اجل بناء حوائط قد لا نكون في حاجة اليها؛ ومن ثم اختلطت المفاهيم بين ما هو مادي وما هو روحاني، ما بين التدين الشكلي لبناء كنيسة، وبين البعد الداخلي، كل البعد عن التدين واقامة حياة روحية مع الله ، فقد جاء المسيح من اجل الانسان وأُهين من قبل اليهود وكان في يده ان يقضي عليهم، إذ كانت معه القوة ولم يستخدمها بل استخدم منطق الحب والفداء من اجل محبة الانسان. يقول الكتاب المقدس "فأطلب أول كل شيء أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات ....لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوي ووقار لأن هذا حسن ومقبول لدي مخلصنا الله" (1تي 2 : 1-3) وورد أيضًا "ذكرهم ان يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا ويكونوا مستعدين لكل عمل صالح ولا يطعنوا في احد ويكونوا غير مخاصمين حلماء مُظهرين كل وداعة لجميع الناس" (تي 3 : 1-2 ) و " إن من يقاوم السلطان يقاوم لترتيب الله" (رو 13: 2) و "لتخضع كل نفس للسلاطين"(رو 13: 1) و "الله محبة" وغيرها من آيات الكتاب المقدس التي تنُم عن روح المحبة والتسامح والحوار، فأين نحن المسيحيون الان من هذه المحبة المسيحية التي تحولت بسبب البعض الي دعوة للتحريض في كل ازمة بسبب وبغير سبب للقيام بمظاهرات؟ وماذنب هؤلاء الذين فقدوا ارواحهم من اجل افكار خاطئة بعيدة كل البعد عن الدين ، افكار رُسخت من قِبل آخرين للتخريب في نفوسهم اولا قبل التخريب في نفوس الآخرين. فما سبق من تحليل مفارقة كبري بين اتجاه يعمل بكل جهوده ووقته وماله كالهيئة القبطية للعمل من أجل المجتمع والإنسان وإقامة مفاهيم من قبل التفاهم والتعايش والحوار النقدي الايجابي ،وبين جهة اخري قد لا تعلم ببواطن الامور وتركت بعضًا من شبابنا المسيحي الذي هو جزء لا يتجزأ من شعبنا المصري ينجرف وراء اسقاطات لا ذنب لهم فيها ولا معرفة، فبدلاً من ان نعمل جاهدين كمؤسسات لدعم قيم اخلاقية منطلقة من النصوص المقدسة تؤثر علي السلوكيات إزاء الانسان والمجتمع، نتغافل هذا الدور وننغمس في فتاوي ليس لها نفع. وهنا اقول كفي ايها القائمون علي قيادة فكر هؤلاء الشباب ولندع الأمور في ايدي اصحابها من شأن التخصص يحكم فيها القانون وليس شباب ومواطنون بسطاء لا يدركون ما يفعلون.