كان قد أرسل لها علي جناح الوجد رسالة مقتضبة يشرح فيها أسباب غيابه المفاجئ. مهمة دبلوماسية جديدة أضيفت لمهامه الأخري في القاهرة. السفر والخوف من الابتعاد عن عيونها. وورقة من شجرة التوت المفرعة في باحة بيت الزمالك جففها وطواها داخل الرسالة. تسلمتها بلهفة وكأنه لا يسكن علي بعد ساعة واحدة من بيتها. الرسالة غير المكالمة التليفونية، الرسالة وقت ينقضي في الكتابة والتردد والتفكير في أنسب كلمة، وقت يقضيه معها وحده وبدونها. الاقتراب لا يلغي المسافة، والعكس صحيح. رسالة يحملها ساعي بريد، سعاة بريد، من يد ليد تكبر وتزيد. لهفة وترقب وشوق لتلك السطور التي لا تكشف سرها إلا بعد القراءة الثالثة. فتحتها بعيدا عن الأعين، في الشرفة المطلة علي الميدان، ملكة متوجة تصعد نحوها النظرات. كلما ظهرت في الشرفة، خالطها هذا الإحساس، امتلاك الكون، لأن في يدها رسالة منه. يسأل واحد من الشعب: ماذا في يد الملكة؟ ويرد واحد من الشعب، رسالة. ويسأل ثالث، من أرسلها؟ ويحتار المسئول في الإجابة لكنه يخمن: رجل؟ تكرر أمها السؤال فتجيبها، صديقة من فرنسا. الطابع علي الظرف يكشف كذبتها الصغيرة، لكن الأم لا تلح وتختفي بالداخل بعيدا عن أنظار الشعب المعلقة بالشرفة. الرسالة تقول إنه يسافر، ولا يراها قبل شهر. والشهر يمتد، ويرسل هدية من البلد الغريب مع صديق. تلتقي به في مقهي علي النهر، تفتح الرسالة قبل الهدية، تقرأ وكأن الصديق غير موجود، مرة، مرتان. والصديق يقع في حبها بلا مناسبة، فجأة وهو يتأمل ملامح وجهها السمراء وأنفها الصغير وارتعاشة خفية في أصابعها التي تتشبث بأطراف الورقة. يشير إلي الهدية قائلا إنها وصلت بالحقيبة الدبلوماسية. ويتمادي فيسأل: هل هو حبيبك؟ وهي لا تعرف بم تجيبه، تبتسم ثم تضحك بخجل وتقول: ربما. والصديق بوجهه الوديع وشامة علي رقبته تظهر من ياقة القميص يتمني أن تكون له، الآن، للأبد، هذه المرأة الصغيرة. الغياب يطول وهي لا تجيد الانتظار. توافق علي دعوة عشاء مع الصديق. يقول وهو يمسك يدها في المطعم إنها أجمل يد رآها في حياته. ويمد طرف إصبعه لأرنبة الأنف ويقول: كليوباترا. فترد: جو أواي! وتلمس أرنبة أنفها بخفة وتضحك: إنه خطأ باسكال. ما يستقر الآن في الهواء هو شبح حب جديد، سيأخذه هو مأخذ الجد، وستضحك هي منه وتهز أكتافها. وماذا بعد؟ الوقت ثقيل، والتجربة لا تؤذي أحدا. كل مشاعر الحب تجربة في تمضية الوقت، والتملك، وممارسة الخوف. "استراتيجية شيطانية وبريئة" كما يقول دولوز عن رسائل كافكا لأبيه ولحبيبته فيليس. "جول وجيم" رواية غير معروفة لكاتب غير معروف اسمه جان-بيير روشيه. وأيضا رواية "الإنجليزيتان والقارة"، أتعرفين ذلك؟ لم تكن تعرف لكنها قالت إن تروفو عندما حولهما للسينما جاء بمعجزة. لا تمل مشاهدة الفيلمين، كلما تسني. نسيت اسم البطلة، تذكرت اسم الممثلة، جان مورو. قالت إنها لا تحب فم جان مورو. فم حزين، وأسنان مفروطة، سيكسي لكن أجرسيف. تذكرت مشهدا تقول فيه إنها قبل لقائها بجول، الزوج، كان وجهها دائما حزينا. ثم لم يعد كذلك بعد لقائهما. كانت تقول ذلك في حضرة جول، الزوج الذي طلقته، وتوجه حديثها لجيم، الرجل الذي أغوته. لكنها أحبت جيم في غفلة من الزمن وعذبته وماتت معه في حادث في نهاية الفيلم فقط لتستعيد الحزن الملتصق بوجهها. تأخذ شفطة من كوب المانجو ويسرح بصرها بعيدا عنه. هو ليس جيم، وهي ليست جان مورو. وصاحب الرسائل المختفي لا يصلح لأن يلعب أيا من الدورين، لا هو جول ولا هو جيم. غائب أرسل رسالة جمعتها بغيره، وانتهي دوره عند هذا الحد. والهدية ارتدتها في المطعم، تريد أن تذكره إنها صاحبة صاحبه، وهو لا يهتم كثيرا، الغائب شبح يحلق في فضاء الحديث ويسهل تحييده بكلمة واحدة، حبيبها؟ ربما. في مساحة الشك تلك، يسهل استمالة قلبها، والوقت ملكهما. عشرون عاما مضت علي الغياب. داوم علي الاتصال بها، يعرف فرحتها بالرسائل. حافظ علي الخيط مشدودا. رسالة جديدة أو رسالتان من كل بلد. كروت بوستال، محاولات متباعدة للاتصال علي الهاتف، وهي لا ترد. تقرأ الرسائل بنهم وتعيد القراءة مرة، مرات، لكنها لا ترد. ليس لدي الملكة من تستعطفه. غيرت العنوان ومع ذلك لاحقتها الرسائل، وأضيف إليها التليفون من آن لآخر والأم تخفي رقمها عن الغريب. ثم أضيف إلي الرسائل الإيميل. ولم ترد، ولا مرة واحدة كانت تستحق الرد، استغلت الفرصة لتقرأ وراحت تسأل نفسها، هل حقا يحبني؟ عشرون عاما أحبت أثناءها عشرين مرة. وتعود كلماته توقظ تلك المشاعر الغامضة، ماذا لو؟ هي امتنعت عن الرد لأنها صاحبت صديقه زمنا، وعندما طلبها الصديق للزواج، صاحبت غيره. امتنعت عن الرد لأنها خافت من تصميمه علي الاحتفاظ بها، خافت من شعرة الجنون هذه، الانتظار، وفتح مجال للأمل. خافت أكثر حين كتب في الإيميل الأخير: عشرون عاما ولا شيء سوي الندم. يتذكر القاهرة ويقرن اسمها باسم المدينة بشارطة. شارطة توهمها أنه يندم علي السفر، يندم علي تلك الرحلة التي باعدت بينهما. خافت أن يكون جنونه مزمنا، تمنت في السر أن يكون مزمنا، فقط لتستمتع بالمطاردة. عشرون عاما من الندم؟ واسمها الذي بات اسم مدينة، توجها علي ذكراها؟ متي تستعيد اسمها خاليا من تلك الشارطة، من شرط الزمن المنقضي؟ لكنها بدافع من استعذاب الخطر، بحركة من شأنها تخريب علاقتها المبهمة بصاحب الرسائل، فتحت بابا للشرور، لتلك البراءة الشيطانية المستترة تدخل منه وتتربع وتستقر. أجابت عن الإيميل كأنها تشير إلي المخرَج الذي يبحث عنه الفأر في ظلمة الجُحر. تعرف أنه لا يريد الحرية، يريد فقط أن يعرف أن ثمة مخرجاً. [email protected]