عُدْتُ في حلم إلي عادة قضم أطراف الأظافر، وهي عادة هجرتها أو هجرتني منذ زمن طويل. كان ظفر إصبعي ينقلب في الهواء تحت حت أسناني تاركاً بروازه إلا من جانب واحد. بفزع قمتُ باختبار الأظافر الأربعة، فكانت تترك أيضاً بروازها، وتبقي مُعلَّقة في جانب واحد. كان اللحم تحتها رقيقاً وردياً. أعدتُ بيأس غطاء الأظافر، وأنا أضغط عليها. قمتُ من النوم بذكري اللحم الوردي العاري الشبيه بكعوب أطفال حديثي الولادة. تصورتُ في ساعة ليل أن الحقيقة هنا ليستْ كما هي هناك، وحلمتُ أن مهمتي الجديدة هي تبديل ونقل حقيقة كانت هنا، مكان حقيقة كانت هناك، وبين عشية وضحاها يستيقظ الناس علي شيء آخر، فيقول واحد من جماعة هنا: ما كان هنا لم يصبح هنا، وفي نفس الوقت يقول واحد من جماعة هناك: ما كان هنا لم يصبح هنا. الحقيقة أن جماعة هنا لا تعرف وجود حقيقة هناك، بل لا تعرف وجود ظرف مكاني آخر، وما تحياه هنا هو هنا، وجماعة هناك بنسبة قول واحد منهم، هي هنا، وليستْ هناك، أي أنها مثل جماعة هنا، لا تعرف وجود حقيقة هناك، ولا تعرف وجود ظرف مكاني آخر. وفي مُضاعفة حلم اليقظة اكتشفتُ أنني لو أردتُ تبديل ونقل حقيقة كانت هنا مكان حقيقة كانت هناك، فلا بد لي أن أكون هنا وهناك، أي أن أكون واحداً من جماعة هنا، وواحداً من جماعة هناك، في نفس الوقت، أو أن لا أكون هنا أو هناك علي الإطلاق. كنتُ وأنا جالس في كافيتريا الحديقة اليابانية أتذكَّرُ أحياناً سنوات بعيدة من فصل آخر، كانت تجلس فيها معي بثياب لا تناسب قليلاً الفصل السنوي، في نفس الكافيتريا، لكنني أتذكَّرها الآن، هي والسنوات البعيدة، والثياب دون ألوانها، اللهم عينة من بلوزة حمراء تحفظ ماء وجه الذاكرة، من غير تلك الكآبة التي كنتُ أعتقدُ حينها أنني ذائقها حتماً ولا محالة لو حدث بيني وبينها انفصال في المستقبل البعيد، ناهيك عن المستقبل القريب، ذلك أن ما كان يسقط تلك الكآبة مُقدماً علي مستقبل السنوات، القريب والبعيد، لم يعد موجوداً الآن، لكنه ترك أثره فيما يشبه لا مبالاة قاسية، ستطبع حياتي من الآن وإلي الأبد، ولن يعرف أحد ما مهما كان قربه لي سببها. وكمَنْ ينقطع لتسمين وحوش الذات، بقيتُ في بيتي أحلم بتأسيس وتأثيث بيت آخر. كنتُ أتجاوز أساسات البيت سريعاً، الحديد والإسمنت والظلط، لكنني أبقي كثيراً مع سمك الجدران، واتساع البلكونات والنوافذ. ومع الأثاث كنتُ أغربل طويلاً الأفكار، وأنخل دقيقها. هذا كرسي رأيته عند صديقة منذ سنوات، نوع الخشب، موجنة فيما أظن، كيف يكون لي هذا الكرسي دون كل التعقيدات الواقعية، الشراء، السرقة، التقليد، تأنيب الذاكرة بأنه لم يكن من اختياري. وهذا باب من الحديد المشغول، انقرضتْ طريقة صب مادته، وتقلصت إمكانيات رسومه، فلم يكن أمامي سوي نحت مادته الصلبة في رأسي، وبحثي فيما بعد عن أبواب عمارات قديمة تحقق الحد الاقصي من التحكم في مادته. كان كيركجارد من مُحبي البشر. وكان يشعر بالحيرة واليأس نظراً لأنه لم ينجز شيئاً، ولعجزه عن أن يجعل الأشياء أكثر سهولة مما هي عليه، ولهذا تصور أن مهمته هي أن يخلق المشاكل والصعاب في كل مكان. كان يجلس علي المقهي في أيام الآحاد يدخن سيجاراً، ويتأمل الفتيات العاملات، وفجأة يخطر له خاطر، فيقول في نفسه: أنت لا تزال تضيع وقتك عبثاً، مع أن العباقرة ظهروا في كل مكان، وحاول كل واحد منهم بطريقته، أن يجعل الوجود والحياة ووسائل الاتصال عبر التاريخ والاتصال بالسعادة الأبدية، أسهل فأسهل. فماذا تفعل أنت؟ ألا يمكن أن تكتشف طريقة ما تستطيع بواسطتها أن تعين الأجيال وتساعدهم؟ عندئذ سأل نفسه، لِمَ لا أجلس وأجعل كل شيء أكثر صعوبة؟ إذ لا بد للإنسان أن يكون نافعاً بشكل ما، وحتي إذا لم يستسغ الجيل القادم هذا التصعيب للأشياء، فيكفي أن أكون محبوباً من أولئك الذين يريدون تسهيل كل شيء، لأنه إذا لم يكن هناك مَنْ هو علي استعداد لجعل الأشياء أكثر صعوبة، لأصبحتْ السهولة أكثر مما ينبغي.