حادثة كنيسة سيدة النجاة في قلب بغداد، التي خلفت وراءها عشرات القتلي والجرحي، تكشف أن ذهنية الإرهابيين هي ضد الحضارة الإنسانية. فقد احتجز عشرة مسلحين، يعتقد أنهم ينتمون إلي تنظيم القاعدة مصلين أبرياء في إحدي الكنائس، غالبيتهم من النساء والأطفال، وطالبوا بالإفراج عنهم مقابل قيام أجهزة الأمن العراقية بالإفراج عن عناصر من تنظيم القاعدة في السجون. هذه هي المرة الأولي منذ اندلاع المواجهات الدموية في العراق التي تحتجز فيها مجموعة مسلحة رهائن للتفاوض علي رءوسهم مقابل الإفراج عن إرهابيين في السجون. لم تمهل قوات الأمن العراقية نفسها الوقت الكافي، ولم تحاول التفاوض حتي من باب استنزاف الوقت، ومعرفة هوية الفاعلين، فقد قررت في غضون ثلاث ساعات اقتحام الكنيسة بهدف تحرير الرهائن. سقط عشرات المصلين وقوات الأمن ما بين قتيل وجريح، أما الإرهابيين فقد سقط اثنان منهم برصاص قناصة الشرطة، وفجر ثلاثة أنفسهم في عملية انتحارية كانت سببا رئيسيا في ارتفاع الخسائر البشرية في العملية التي كان من بينها أفراد عائلة بأكملها، فيما قبض علي خمسة مسلحين قيل إنهم يحملون جنسيات دول عربية أخري. تنظيم القاعدة تبني الحادثة، وزاد علي ذلك بإعلان استهداف واسع النطاق للمسيحيين في المنطقة العربية باستهداف الأقباط في مصر، بتهديدهم - لأول مرة - ليس فقط في مصر، ولكن في بلاد أخري يوجدون بها، عربية وأجنبية. اللافت أن البيان الذي حمل توقيع تنظيم القاعدة أمهل الكنيسة مدة يومين (48 ساعة) للإفراج عن زوجتي الكاهنين اللتين يزعم أنهما أسلمتا وتقبعان الآن بأحد الأديرة، السيدتين وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، اللتين باتتا من الشهرة بحيث تضمنهما بيان منسوب إلي تنظيم القاعدة. لا أحد يعرف مدي صحة هذا البيان من عدمه، ولاسيما أن تنظيم القاعدة من الهلامية بحيث يصعب تحديد أبعاده، ولكني أعتقد يقينا أن ما جري يثبت أن حملة التحريض علي الأقباط من جانب بعض المنابر السلفية المتشددة طيلة الشهور الماضية باتت تؤتي بثمار، من مواقع انترنت تحرض علي الفتنة، وتسعي لإشعالها، وأقلام تنفخ في الطائفية، وفضائيات تؤجج المشاعر المتوترة، ومظاهرات أسبوعية تتحدي الدولة والقانون. وكان من الممكن أن يستمر ذلك بكل ضراوة، لولا أن الرئيس حسني مبارك أوقف هذه الموجة من التطرف والاحتقان، وأعلن أن الوحدة الوطنية خط أحمر. كل الأصوات المحرضة علي الأقباط، والوحدة الوطنية تتحمل مسئولية ما يجري، ولكن من الإنصاف القول أن كثيرا من عوامل الاحتقان في المحيط الإسلامي لم تجد آذانا صاغية من جانب الأقباط، وكان من الممكن حال وجود حوار ناضج أن يجري تصريف هذه الشحن الطائفية المعلبة، وهو ما لم يحدث. ما حدث في العراق شيء مؤسف، استنكره المسلمون قبل المسيحيين، ولكن نريد أن نستنكر بنفس القوة أية محاولات خارجية للعبث بالوحدة الوطنية، ونقول إن مصر ليست العراق، أو أي مكان آخر، هذه هي مسئولية الأصوات التي تنفخ في الطائفية، وتنبش في الجراح المطمورة، وأن يكون هناك خطاب جديد للمجتمع يستند إلي منطلق مختلف، هو خصوصية الشأن الديني في المجتمع المصري، خصوصية العلاقات الإسلامية المسيحية، وخصوصية الفقه الإسلامي الرحب في مصر، وخصوصية انتماء الكنيسة إلي عمق التربة المصرية. مثل هذه الأفكار والمبادئ بحاجة إلي غرسها، وتدعيمها حتي يعرف المواطن العادي أن مصر مختلفة، ويجب أن تظل مختلفة. أعتقد أن التيار السلفي في مصر يحتاج إلي تسجيل موقف واضح، خاصة العناصر الحركية منه مثل الجماعة الإسلامية، فقد سبق أن أعلنوا رفضهم للعنف، وتأثيمه فقهيا، وبات عليهم اليوم أن يعلنوا صراحة أن دعاوي التحريض علي الأقباط، والدولة في مصر، صدرت من القاعدة أو من غيرها ليست فقط ضد الإسلام، ولكنها بوجه خاص ضد الإسلام في مصر. إن ما يعلنه تنظيم القاعدة هو ليس ضد المسيحيين فحسب، ولكنه ضد مصر الكيان، الدولة، المجتمع، العلاقات التي تجمع المواطنين، والتاريخ المشترك، والمستقبل المشترك أيضا... يحتاج المجتمع إلي الوقوف في وجه هذا التهديد، لأن مستقبله مرهون بمواجهته، ومواجهة كل الدعاوي التي علي شاكلته.