أكد لها أن الرجل كان واثقا من صحة العنوان، ولم يصدق أن شقتهم ليست معروضة للإيجار، كما لم يصدق بأن الحج إبراهيم صاحب البيت مات منذ سنوات، فإبراهيم نفسه هو الذي اتصل بالسمسار أمس وطلب منه البحث عن مستأجر للدور الأرضي. سألته أمه ولماذا لم ينادها؟ نادي عليها لكنها لم ترد عليه فظن أنها مشغولة في المطبخ. وقلق من الدخول وترك غريباً واقفاً عند الشباك المفتوح. وضعت أمه كفها علي جبينه لتتأكد من عدم ارتفاع حرارته مرة أخري. وأوصته بأن يزعق بعلو صوته لو عاد هذا الرجل. فهم أنها تريد إنهاء هذه الحكاية ولا تتمادي في سؤاله، فلم تسمعه يتكلم مع أحد كلما اقتربت من الغرفة لتطمئن عليه،. ولم تلمح أي رأس مقتربة من الشباك. ضايقه عدم تصديقها له. وتعاملها مع كلامه علي أنه مجرد امتداد لهذيانه وهو مريض. عادت أمه من المطبخ مسرعة وطلبت منه ألا يخبر والده. وأحس بأنه لو لم يكن في فترة النقاهة من الحمي لصرخت في وجهه وحذرته بشدة من ذكر أي شيء. فهي لا تريد أن توفر فرصة جديدة أمام والده ليثير مرة أخري موضوع تركيب القضبان الحديدية علي الشباك. استطاعت أمه - حتي الآن - منع تلك القضبان، لكنها تعرف أن والده لم يهمل الموضوع، ولن يتعامل مع حكاية يحيي علي أنها مجرد هلاوس، وأنه من المستحيل تحدث صاحب البيت الميت مع أحد، بل سيراها دليلا آخر علي ضرورة الحديد وسيقول بطريقته " افرضي ما حصلش كل ده لكن ممكن يحصل " ولن يتردد في تأكيد أنها حيلة جديدة لسرقة البيوت. وأن طرق السرقة صار لها ألف شكل وشكل حتي تشعر هي أن كل ما يحدث في الحياة صار شكلا من أشكال السرقة. وسيتخيل والده ما كان سيحدث لو أتم الرجل سرقته. ويصوره قادرا علي سرقة ما يريد في لمح البصر، ولن يعوقه شيء، ويلتقط بخفة التليفزيون أو المروحة أو كل ما يمكن أن تلتقطه يداه، ويقفز من الشباك ويختفي قبل أن تنتبه. وستظل أمه واقفة في الغرفة غير مصدقة، وهي تحدق في المطارح الفارغة من الأشياء التي سرقت، وتصير مصيبة لو فاجأته وهو يسرق، فلن تتحمل أية ضربة وسيكتم صرختها قبل أن يسمعها أحد. لا يمل يحيي من سماع والده وهو يحكي تفاصيل أية سرقة سمع بها أو قرأ عنها. كان يستغرق في التفاصيل كأنها حدثت له ويندفع في الكلام، وبالكاد يتوقف ليبلع ريقه، وتبدو تعبيرات وجهه كأنه يري اللص أمامه ولا حل سوي تركيب الحديد. وحينما تلوم أمه غفلة " اللي اتسرقوا " كان والده يتضايق ويؤكد أن كل الناس ممكن أن تغفل عن أشيائها ولا يوجد أحد منتبه أربعاً وعشرين ساعة، ويذكرها بسرقة حقيبته وهو واقف أمام شباك في البنك رغم خلوه من الزبائن. وحتي لا تزيد من غضبه لم تعد أمه تحمد الله علي أن الحقيبة كانت فيها الجريدة فقط كما امتنعت عن التعليق علي المبالغات في حكاياته عن السرقات. وكان والده يردد " باين مش حيفضل غيرنا " كلما ثبت أحد الجيران قضبانا علي شباكه. وحينما يعيد والده ما قاله الجار عن مزايا الحديد والمكان الذي يباع فيه بسعر رخيص تظل أمه صامتة متظاهرة بانشغالها بأي شيء. فقد توقفت عن الإشارة إلي أن عددا كبيرا من الأدوار الأرضية لم تلجأ إلي الحديد. بعدما صار العدد يتناقص كل فترة. وصار شيئا عاديا سماع صوت مطرقة الحداد وهو يثبت الحديد، لكن أكثر ما ضايقها حينما ثبت الجيران المواجهون لها القضبان، كأنهم وضعوا أمامها مرآة تري فيها يوميا ما ترفض حدوثه بينما يري فيها والده ما يرغب فيه.