كانت سعادتي بلا حدود لإعادة طبع كتاب يوميات فيلم للناقد والمخرج التسجيلي المرموق هاشم النحاس لسببين مهمين الأول موضوعي وهو تفرد الكتاب ضمن كل إصدارات المكتبة السينمائية العربية بتسجيل عملية صناعة فيلم سينمائي متميز «القاهرة 30» بطريقة منهجية وذكية وشاملة منذ بداية التفكير في تقديم الفيلم الذي كان حلما في ذهن مخرجه الكبير صلاح أبوسيف وحتي مراحل التصوير والمونتاج والعرض بل أصداء ما بعد العرض نقدياً وجماهيرياً. كل ذلك جعل من الكتاب حالة خاصة لم تتكرر وأظن أنه من الصعب أن يكتب عن كواليس صناعة فيلم مصري بمثل هذه الدقة والحب والأسلوب السلس الجذاب بالإضافة بالطبع إلي أن جهابذة صناعة الفيلم المصري لم ولن يفكروا في دعم كتاب له هدف ثقافي عن أفلامهم حتي لو كان بعضها ضخم الإنتاج وأحدها تكلف مثلا 40 مليون جنيه وحتي لو كان أحدهما وهو المسافر من إنتاج وزارة الثقافة نفسها. أما السبب الثاني للسعادة فهو ذاتي وشخصي لأنني كتبت أن هذا الكتاب «يوميات فيلم» هو أول كتاب أقرؤه عن السينما وكان فضل قراءته عظيماً لأنه أعطاني مفاتيح صناعة الأفلام وعالمها الساحر كما فتح شهيتي لالتهام المزيد من الكتب في كل فروع صناعة السينما والكتابات النقدية أيضا وبسبب المتعة التي تركها هذا الكتاب أصبح معيار القراءة لدي تحقيق شرط المتعة التي لا تتنافي كما تعلمت أيضا من الكتاب مع العمق والمادة العلمية الرصينة والمنهج الواضح الذي ينظم المادة ويعطيها تماسكها ومعناها ودلالاتها، «يوميات فيلم» الذي قرأته في طبعته القديمة الصفراء الصادرة عن المؤسسة المصرية للتأليف والنشر دار الكتاب العربي للطباعة والنشر عام 1967 فتح أمامي نوافذ لا حدود لها منذ أن عثرت عليه بالصدفة في مكتبة كلية الإعلام وكنت ومازلت أنصح أي شخص يريد القراءة في مجال السينما بأن يبدأ بقراءة هذا الكتاب الذي حصلت علي أولي نسخه من سور الأزبكية وكنت كلما أعطيت نسخة لأحد مجانين السينما احتفظ بها ولم يردها فأعود من جديد إلي السور العظيم لشراء نسخة قديمة وأظن أن الأجيال الجديدة محظوظة بإتاحة هذه الطبعة الثانية من الكتاب الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب سلسلة نجيب محفوظ العدد رقم 6 التي تتصدرها مقدمة جديدة للمؤلف مع إهداء للناقد والباحث الرائد أحمد الحضري ولاسم المخرج والناقد الكبير الراحل «أحمد كامل مرسي». ما أدهشني أنني لم أفقد متعة القراءة والاستفادة وأنا أعيد قراءة الطبعة الجديدة مع أنني أستطيع أن أتذكر صفحات بأكملها من الكتاب لم أفتقد أيضا لذة الدهشة والاكتشاف رغم أن تكتيك صناعة الأفلام وتجهيزها خاصة في مرحلة المونتاج تطور إلي درجة مذهلة تختلف عما كان يحدث أثناء إنتاج فيلم «القاهرة 30» ولكن ظل «يوميات فيلم» شاهداً علي عصره وزمنه ونجومه والظروف الاقتصادية والسياسية التي صاحبت إنتاجه بل إن أحد أسرار قوة الكتاب حتي اليوم في هذا التوثيق لطرق صناعة الأفلام بالأساليب المتاحة وقتها ومن خلال حفنة من كبار الموهوبين في شتي فروع العمل السينمائي من صلاح أبوسيف إلي «وحيد فريد» إلي «سعيد الشيخ»، ومجموعة من الموهوبين الصاعدين وقتها من «حمدي أحمد» و«عبدالعزيز مخيون» إلي «هاشم النحاس» نفسه الذي كان مساعدا للمخرج صلاح أبوسيف يقوم بتدوين بعض المعلومات عن كل مشهد أثناء تصويره علي استمارات تتضمن حجم العدسة في كل لقطة، وحركة الكاميرا والممثلين، ولأن «النحاس» كان عاشقا للسينما، فإن لم يكتف بتلك الاستمارات، ولكنه بدأ في تدوين كل ما رآه جديرا بالملاحظة حتي قبل التصوير، ومن خلال هذه الملاحظات ولدت فكرة الكتاب وبذرته، التي اصطدمت -رغم الحماس المبدئي- بغضب «صلاح أبوسيف» خوفا من ذكر تفصيلات قد تكون ضد الفيلم فيما كان المخرج الكبير لا يريد سوي ما يشبه الكتب الدعائية، ولكن «أحمد الحضري» تحمس كثيرا للكتاب مما دفع به إلي النور بعد إحباط الأستاذ لتلميذه «هاشم النحاس»، وفي المقدمة الجديدة للكتاب ما يشير إلي أن «صلاح أبوسيف» أدرك فيما بعد أهمية الكتاب، ومردوده الإيجابي علي الفيلم نفسه. اعتمد الكتاب علي عين عاشقة مدققة ترصد كل شيء، ثم وضعت هذه الملاحظات في إطار بناء متماسك (كالسيناريو تماما) يجعل من صناعة الفيلم عملا يشبه المعركة، وكان الهدف -كما سجل النحاس- أن يتم وضع صورة واضحة أمام القارئ لكل الجهود المبذولة من أجل صنع فيلم من الأفلام علي أن تحتفظ هذه الصورة بحيوية العمل وديناميكيته، وقد وصف أحمد كامل مرسي فصول الكتاب بأنها أشبه ما تكون بالسيمفونية: الفصل الأول يمثل مرحلة الإعداد والتخطيط للفيلم وعنوانه «قبل التصوير أو الكل علي أهبة الاستعداد»، والفصل الثاني بعنوان «التصوير أو كل الجبهات تتحرك»، ويتحدث عن مرحلة التنفيذ، والفصل الثالث بعنوان «المونتاج والموسيقي والمكساج أو حصاد المعركة»، ويتحدث عن عملية بناء الفيلم في حجرة التوليف، والفصل الثالث عنوانه (لقطات أو طلقات) وفيه متابعة لبعض التعليقات والجو العام للعرض الخاص الذي أقامته شركة الإنتاج للنقاد وللصحفيين، كما أن هناك تسجيلا للقطة رقم 701 وتفصيلاتها مع تقديم صفحات من القصة السينمائية للمقارنة بين المعالجة وبين الإعداد النهائي للعمل، ولم يغفل «النحاس» متابعة تفاعل النقد مع عرض الفيلم من خلال فصل شديد الأهمية عنوانه: «الفيلم علي صفحات الجرائد والمجلات.. أو صدي المعركة». أجزاء كثيرة استعدت طرافتها ودلالاتها عندما أعدت القراءة: «صلاح أبوسيف» ودأبه لتحقيق حلمه لتنفيذ وتقديم رواية «القاهرةالجديدة» منذ قرأها عام 1945، ورغم رفض الرقابة تقديمها كفيلم أربع مرات (أعتقد أن إحدي هذه المرات رفضها رئيس الرقابة وقتها نجيب محفوظ!) ومع ذلك لم ييأس المخرج الكبير ليقدم في النهاية أحد أفضل أفلامه، ثم هذا الحماس الكبير منه لأسماء جديدة مثل تلميذته «وفية خيري» التي أعدت المعالجة في ثلاثة أشهر، وحماسه للوجوه الجديدة خاصة «حمدي أحمد» الذي يقفز صوته أمامنا كلما قرأنا عن «محجوب» في الرواية، أتوقف أيضا عن المناقشات الطويلة بين «صلاح أبوسيف» وتلامذته في معهد السيناريو، والذين انضموا إلي السيناريو بمؤسسة السينما، وأتوقف أكثر عند ملاحظاتهم العميقة علي الرواية وعلي السيناريو المكتوب، ومن بين هؤلاء التلاميذ «مصطفي محرم» و«أحمد راشد» و«أحمد عبدالوهاب» و«هاشم النحاس»، كم هي شاقة عملية صناعة الأفلام، ولكنها ممتعة أيضا. كتاب «يوميات فيلم» ليس مجرد كتاب عن السينما، ولكنه بالنسبة لي أقرب إلي سيناريو حي نابض عن صناعة الأفلام، صورة لمجتمع الفن والفكر، عندما تقرأ يمكن أن تسمع أصوات الفنيين في الاستوديو، ومناقشات «صلاح أبوسيف» مع تلاميذه وضحكات الجمهور أثناء العرض الخاص، وانفعالات «أبوسيف» علي مساعديه «أحمد فؤاد» و«محمد عبدالعزيز»، وأصوات حركة الكاميرا. هنا عالم السينما بكل تفاصيله وألوانه ونجومه ومشكلاته، وهنا الأوراق التي يجسدها البشر ثم يتحولون بدورهم إلي أطياف فوق شاشة بيضاء، هنا العمل الجماعي الصعب الذي يحتاج إلي قائد محنك كما في مشهد الحفلة الشهير. هكذا يجب أن تُصنع الأفلام.. بجدية وبحب وبدقة وبتوظيف كل العناصر.. وهكذا يجب أن تُكتب الدراسات عن الأفلام.. بجدية وبحب وبمنهج واضح ومحدد، وبعين ذكية، وبقلب عاشق، وبعقل ناقد ومتفتح. ثم إن الكتب الكبيرة كالأفلام الكبيرة.. تولد من جديد مع كل قارئ أو مشاهد جديد.