لست أعرف بالضبط هل رأيت كل ما رأيت فيما يري النائم، أو فيما يراه الصاحي، المهم أنني رأيته. ازداد توتري في الفترة الخيرة، قلت ساعات نومي وبدأت أري أشياء لا يراها الآخرون، فبدأت أشعر بالقلق، ولكي لا ينتهي الأمر بي إلي الانهيار العصبي أو ما هو أفظع، رأيت أن أعرض حالتي علي طبيب نفسي صديق.. استمع الطبيب إلي شكواي ثم سألني: هل المشكلة هي أنك تري أشياء لا يراها الآخرون.. أم أنك تراها بشكل مختلف ؟ وهل يريحك أن تراها مثلما يرونها بالضبط.. أم أنك تريد منهم أن يروها مثلما تراها أنت؟ شعرت بالحيرة، وسكت للحظات ثم أجبته: حقيقة، لست أعرف الإجابة علي سؤالك. حدق الطبيب في عيني طويلا ثم سألني فجأة: ألا تستخدم الكحل؟ أجبته في دهشة: الكحل يا سيدي الطبيب..؟ وهل الرجال يستخدمون الكحل..؟ النساء فقط هن اللاتي يستخدمن الكحل. ضحك الطبيب طويلا ثم قال لي في ود وكأنه يشرح لطفل صغير: أنت تتحدث عن الأزمنة القديمة، عندما كانت النساء يستخدمن الكحل لتجميل أعينهن، أما الآن فالناس كلهم يتكحلون. صحت في دهشة: لم ألاحظ ذلك.. قال: ذلك لأن الكحل الآن لم يعد أسود.. هو كحل عديم اللون، ولم تعد وظيفته تجميل العينين، بل مساعدة العين علي أن تري الأشياء بالضبط كما يراها الآخرون.. ستظل تري الأشياء بشكل مختلف مادمت لا تتكحل.. هذا هو سر توترك وقلقك النفسي. أزعجتني فكرة وضع الكحل في عيني حتي لو كان عديم اللون، قلت له ذلك فأجابني: من الأفضل أن تنزعج عدة دقائق في الصباح بدلا من أن تفقد عقلك طول اليوم.. أعدك بأن الكحل سيساعدك علي أن تري كل الأشياء كما يراها الآخرون بالضبط.. المقالات.. الأدب.. الأفلام.. المسرحيات.. السلوك العام.. القيم السائدة.. برامج التليفزيون.. الإذاعة.. الشوارع المرور.. المباني.. ستصبح جزءاً من الكل، واحدا من المجموع، فردا في الطابور.. ترسا في الماكينة.. قالب طوب في المبني.. عند ذلك لا يضايقك شيء، ويزول توترك وتستعيد توازنك النفسي. قلت: ولكني لا أحب الكحل يا سيدي الطبيب، ولا القطرة، وعيني حساسة جدا للصابون وللضوء الشديد والمناظر الكريهة. فقال بنفاد صبر: اسمع.. لا تحاول الإفلات أو الخروج عن القاعدة.. القاعدة هي.. اللي عاجبه الكحل يتكحل.. واللي مش عاجبه يرحل. هل تقصد أنها القاعدة في عيادتك؟.. أفهم من ذلك أنك تخيرني بين أن أضع الكحل أو أغادر العيادة.. ابتسم الطبيب في إشفاق وقال: استغفر الله.. كيف تظن بي مثل هذا الظن؟.. هذه هي القاعدة في الحياة.. في الدنيا.. في السياسة.. في التاريخ.. في الجغرافيا.. وفي عيادتي بالطبع. قلت له في تحد: يعني أنت لا تريدني أن أتكحل فقط.. أنت تريدني أن أعجب به.. أن أسعد به.. أن أتحمس له.. قال: صدقني.. أنا لا أريد منك شيئا، أنا فقط أذكر لك القاعدة لكي تكون علي بينة من أمرك.. ولكي تختار بكامل حريتك. قلت : يا صديقي الطبيب.. لقد ابتعد بنا الحديث عن السؤال.. السؤال هو.. هل ما أراه حقيقيا.. أم هو غير حقيقي.. أجاب: من وجهة نظر الصحة النفسية، ليس هناك شيء حقيقي وآخر غير حقيقي.. كما أنه لا أهمية من الناحية العملية للعثور علي إجابة لهذا السؤال.. كما أن الإجابة تخرج عن اختصاصي.. عملي هو إعادة التوازن النفسي إليك، الأمر الذي لن يحدث إلا بعد أن تتكحل.. أؤكد لك أنك ستشعر بعدها براحة كبري...