هل علينا شهر رمضان بنفحاته وروحانياته ويكاد ينتهي في الأساس رغم أنه شهر للعبادة والتقرب إلي الله تعالي.. شهر للتطهر من الذبوب والخطايا ففيه تهب رياح الخير حيث تتحول مصر فيه إلي ما يشبه «دار مناسبات كبيرة» أو «جمعية خيرية ضخمة» آلاف مؤلفة من موائد الرحمن تنتشر بطول البلاد وعرضها تطعم الفقراء والمحتاجين وعابري السبيل.. آلاف مؤلفة من المساجد تستقبل المصلين لأداء صلاة التراويح والتهجد حيث ترتفع أصوات الداعين وتكثر الصدقات والزكوات هذه هي الصورة العامة لشكل المجتمع المصري في شهر رمضان. فإذا تخطينا تلك القشرة ووصلنا إلي اللب وإلي الجوهر وجدنا العديد من المتناقضات بين سلوك العبادات وسلوك المعاملات. فشهر رمضان شهر له طبيعة خاصة بالنسبة للمصريين لكن استعداداتنا لاستقباله وضيافته أخذت أشكالا وأبعادا جديدة لا علاقة لها بالدين والتدين بصفة قطعية فالمفترض أن شهر رمضان شهر الصيام حيث علي الامتناع عن الطعام والشراب وغيرهما من المحرمات وهذا يدعونا إلي التقشف والبساطة لكن واقع الحال مغاير تماما فلا حديث إلا عن الطعام والشراب والولائم، يستهلك الصائم وقته في الحديث عما أكل بالأمس وعما سيأكل اليوم ويبدأ في التخطيط لما سيأكله في الغد! ويتخلل ذلك بالطبع أحاديث المسلسلات والأفلام والبرامج والفوازير والمسابقات ونتائج تلك المنافسات الحامية بين تليفزيون الحياة وتليفزيون الدولة وبالطبع لن ينسي الصائم قراءة نذر يسير من القرآن الكريم مع الاستماع إلي درس من دروس الشيخ الشعراوي قبل انطلاق مدفع الإفطار، يبدو لي أن يوميات الصائم تمر بين أحاديث الطعام والشراب وأحاديث الأفلام والمسلسلات ولا يبقي للعبادات إلا وقت قصير تؤدي فيه الصلوات بطريقة روتينية. إننا نعيش حزمة من المتناقضات المثيرة فالصيام الحقيقي نبتة ثمرتها التقوي والتقوي محلها القلب الذي يوجه سلوك الفرد في معاملاته مع الآخرين والواقع أن الصيام الحديث نبتة ثمرتها غريبة ومجهولة وغير معلومة فالناس تصوم ولا أثر لصيامهم والناس تدعو ولا أثر لدعائهم! والحقيقة أن الناس مشغولون ومنغمسون في أمور لا علاقة لها لا بالدين ولا بالدنيا! هم مشغولون بتوافه الأمور حيث ريموت التليفزيون والدش ومحتويات المائدة! ويذهبون إلي المساجد للصلاة والدعاء فيدعون الله أن ينصرهم علي أعدائهم ويدعونه سبحانة وتعالي أن يرزقهم بغير حساب ويدخلهم الجنة بغير حساب كذلك لكن هيهات.. هيهات أن يستجاب لهم فالله لم يخلقنا لنهيم في الأرض للطعام والشراب واللهو بل خلقنا لنعمر الأرض بالعلم والعمل بالإخلاص والإيمان إنني أتعجب وتتملكني الدهشة حينما أتابع أزمة القمح العالمية التي بدأت تخيم علي أجواء العالم وأزمة مياه النيل التي بدأت تطفو علي السطح ولا أجد أثر لذلك لدي المواطن فقط يهتم بالطعام والشراب والأفلام والمسلسلات. إنني أتابع هذا الكم من الإعلانات المستفزة التي تزف لنا بشري هذا الكم من المسلسلات الرمضانية التي تربو علي الثمانين مسلسلا وكأن شهر رمضان قد جعل للفوازير والمسلسلات ما هذا التناقض المريب شهر للعبادة والسمو والتقوي يتحول إلي شهر للتبذير وضياع الوقت أمام التليفزيونات إنني أحمل وسائل الإعلام بكل أشكالها المسئولية.. مسئولية تشكيل وجدان هذا العشب وإعادة ترتيب أولوياته من جديد، إن الصورة الحقيقة لشهر رمضان تلاشت تماما ولم يعد يبقي منها إلا مجموعة من الشكليات والبدع والخزعبلات. فمتي نفيق ونصحو من غفوتنا ونحول هذا الشهر إلي موسم للعمل والإبداع والنتائج والانتصارات لكن كيف نستطيع تحقيق الانتصارات قبل أن نحقق النصر علي أنفسنا أولا؟ بيد أن الانتصار علي النفس يبدأ بلحظات من التأمل يختلي فيها الفرد بنفسه محاسبا ومعاتبا وعازما ومصلحا ثم تحدث الانطلاقة نحو المعركة الكبري للانتصار علي النفس.