رجل الدولة لا يتعامل مع البشر بوصفهم ملائكة أو حكماء أو حتي أشخاصا فضلاء يحكمون المنطق والعقل ويحرصون علي المصلحة العامة، بل هو يحرص ابتداء علي التعامل مع أطماعهم ثم تحويل هذه الأطماع إلي جسر يعبره هو لتحقيق المصلحة العامة. سأعطيك مثالا من الجزيرة العربية، سأحدثك عن مشاكل حقيقية تعرض لها الملك عبد العزيز آل سعود في بداية حكمه، وكيف تعامل معها، عند ظهور أول سيارة في المملكة تصدت لها الجهات المحافظة الرافضة لأي تطور، لم يكن الموقف من السيارة بأكملها، بل من الموتور، اعتبروه أداة شيطانية، أي موتور، هو من صنع الشيطان، سواء كان داخل سيارة أو مرتبطا بشيء آخر، وبالتالي فإن مناسك الحج لا تكون شرعية إلا بركوب الجمل أو أية دابة أخري.. يعني باختصار ركوب السيارة حرام بالدليل الشرعي وهو أنها لم تكن موجودة أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، كان من الممكن أن يقول لهم الملك عبد العزيز: أيها السادة.. هذا الاختراع ليس حراما.. إنه من نتاج العقل البشري الذي كرمه الله سبحانه وتعالي.. ونحن نريد أن نحيا حياة كريمة مثل بقية خلق الله من الشعوب المتقدمة.. ووجود السيارة عندنا كوسيلة انتقال سوف ينتقل بمجتمعنا إلي الأمام..أما الموتور فهو لازم في كل مجالات الحياة ، أي أن البشر عاجزون عن التقدم بدونه.. ولذلك هو حلال لأنه يصلح أحوال البشر. لم يقل ذلك كله ، كما لم يستعن بالمستنيرين من رجال الدين ليدخلوا في حوار مع نظرائهم المتخلفين، للاستمتاع بمآدب الكلام الذي لا نهاية له، كان علي يقين أن معارضتهم لدخول الموتور إلي المملكة أمر لا صلة له بتعاليم الدين أو التقاليد أو التراث، من المستحيل أن يكون الدين عائقا بين البشر والتقدم، هي ليست أكثر من نطاعة وتنطع بهدف ابتزاز السلطة والاستفادة من واقع جديد لم يساهموا في صنعه وسيعود عليهم حتما بالخسارة عندما تركب الناس هذه السيارات وتتخلي عن ركوب الجمال، لذلك استدعي عددا من المطوفين ورجال الدين وقال محدثا كبيرهم: كم شخصا تنقله علي الجمل الواحد في مناسك الحج ؟ شخصاً واحداً.. شخصين ؟ سأعطيك سيارة كبيرة تنقل بها عشرين شخصا.. سأعطيها لكل واحد منكم مجانا، وبذلك يتضاعف إيرادك عشرين مرة.. كما سيتوافر لديك من الوقت لكي تنقل المزيد من الحجاج...راجعوا فتاواكم...فكروا... لماذا تسارعون بالمصادرة علي المطلوب ؟ أليس من الجائز بعد المزيد من التفكير والفلوس أيضا أن تكتشفوا أن هذا الموتور ضرورة ، وأن الضرورات كما تعلمون تبيح المحظورات..؟ وحدث ما توقعه بالفعل، اكتشفوا في لحظات أنها ليست حراما، بل حلال جدا، وسارع الآخرون باقتناء السيارات بعد أن دفعوا ثمنها بالطبع. كان يعرف أن أفكارالبشر بطبيعتها أرضية وليست موحي بها من السماء، ويعرف أنه سيواجه دائما جماعات من البشر ستناوئه في نطاعة وتنطع بهدف ابتزاز خزانة الدولة والحصول علي مكاسب ما، أو للحصول علي موقع حاكم لهم بين الناس يتيح لهم المزيد من القدرة علي قمعهم وابتزازهم أيضا، كما كان علي وعي أنه في اللحظة التي يتنازل فيها رجل الدولة أو يتراجع أمامهم بدافع من ضعف أو من أفكار سياسية خاطئة مستمدة من تراث ليست له صلة بفن إدارة الدولة، فإنه يفتح شهيتهم علي الفور لطلب تنازلات جديدة لا تنتهي إلا بالقضاء علي الدولة وسيادة الفوضي، درس التاريخ.. لا تتنازل أمام أي متطرف، إذا قدمت له إصبعا سيلتهم ذراعك.