كل عام وأنتم بخير، أما وقد أصبحنا في الشهر الكريم بدأت المبالغات تسود في كل تصرفاتنا وما يحيط بنا، بداية من السلوك ومرورًا بافتعال مظاهر الاحتفال بشهر رمضان، ونهاية بالمسلسلات الحصرية والبرامج التليفزيونية.. صحيح أننا شعب صار لدينا إدمان للمبالغة في أمور كثيرة تفوق أي شعب آخر، فنفرح لأمور عادية لا تحتاج إلي مظاهر الصخب التي تصاحب أفراحنا. ونحزن ونلطم الخدود ونقسو علي أنفسنا بالحزن دون أن يكون للمبالغة فيه معني أو محل أو ضرورة، لكن في شهر رمضان تشتد المبالغة لدينا بقدر يفوق باقي شهور السنة، فنفكر في الأكل كأننا نعيش لنأكل ونشرب وكأننا عطاشي لأيام وشهور ونسهر بالقدر الذي يهدر أجسانا ولا يجعلها تقوي علي العمل في اليوم التالي، ونتسلي بقدر يجعل التسلية كأنها مشروع قومي يتعين علينا أن نثبت ذواتنا فيه، ونهجم علي الخيم الرمضانية نصفق ونرقص ونغني ونلهو كأن كل يوم من أيام الشهر الكريم ليلة رأس السنة الماجنة، ونقود سياراتنا قبل الإفطار فنترك الانطباعات بأننا «مفاجيع» نتسابق علي مائدة واحدة من يصل لها أولا ينل كل الطعام ومن يتأخر ليس أمامه سوي الانتظار لوجبة السحور. أما قمة المبالغة فيعكسها هذا السعار التليفزيوني والمنافسة الحادة بين القنوات والمحطات والبرامج والمسلسلات والإعانات علي جذب المشاهدين الذين من المؤكد أن ملايين منهم وتحت دوافع المبالغة أيضا يجلسون فترات طويلة أمام الشاشات ينهلون من نهر الدراما والمسلسلات والبرامج الحوارية أو تلك التي تحاكي الكاميرا الخفية. نحن شعب تجاوز ال 80 مليونًا وبالتالي دائما سيكون هناك ملايين أمام الشاشات في نفس الوقت الذي سيكون هناك فيه ملايين آخرون في الشوارع أو أماكن السهرات والكل يبالغ في الاحتفال بالشهر الكريم. أما إذا سألت نفسك ومن يعمل في هذا البلد طالما أن كل الملايين في شوارع أو في أماكن لا علاقة لها بالعلم، فستجد الإجابة تعكسها أحوالنا في كل المجالات. شخصيا ومنذ نحو سنتين لا أشاهد التليفزيون في رمضان إلا لمتابعة حدث مهم حصل بشكل مفاجئ، والمؤكد أن ليس من بينها معاناة هذا البطل أو تلك الفنانة في مسلسل تليفزيوني أو إقدام مطربة أو مطرب علي فضح نفسه في برنامج تليفزيوني، أو الاستخفاف بالناس أو الشخصيات العامة في اللقاءات الحوارية، وأخرج من منزلي إلي عملي في العاشرة صباحًا، وبالتالي لا أساهم في زحمة المرور وأترك مكتبي قبل موعد الإفطار بربع ساعة فلا أكون طرفًا في الصراع علي الأسفلت الذي يبدأ قبل أذان المغرب بساعتين علي الأقل، لكني أرتب الأمور في كل الأحوال وأتعجب كغيري لتحول الشهر الكريم إلي موسم للمبالغات في أمور لا علاقة لها بالصوم أو العبادات. وأكتشف في كل مرة أن الأمور ليس جديدًا وإنما يتطور بحسب تطور الزمن والآليات التي نستخدمها لنهدر المعاني التي فرض من أجلها الصوم. ولأن الحكمة تقول إن لكل قاعدة استثناء، فالمؤكد أن بعضنا لا ينغمس في المبالغة بالاحتفاء المظهري الصاخب «التافه» بالشهر الكريم، لكن يبقي هؤلاء دائما الرقم الأقل تماما كما الحال بالنسبة لكل المعضلات التي نعانيها وتعايشنا معها وصارت جزءا من البيئة المحيطة بنا وربما داخلنا. ليس علينا إلا أن نلوم أنفسنا حتي إن اعتقدنا أننا نعيش الحياة التي اخترناها ولم تُفرض علينا أو أننا نمارسها بالطريقة المثلي وعلينا أن نعرف أننا في رمضان لا نعيش الشهر الكريم وإنما نستغله لنزيد من غفوتنا الطويلة.