الحاج عبد الفتاح، مقاول بناء مصري يعيش في جينيف، اصطحبني إلي موقع يقوم فيه ببناء فيلتين بمواصفات حديثة، التكييف المركزي ليس بالطاقة الكهربية، بل بالمياه الساخنة الموجودة في المكان تحت الأرض، الجدران معزولة ، مواصفات البناء بوجه عام في سويسرا ربما تبلغ ضعف المواصفات الفرنسية، متي يبدأ العمل صباحًا في الموقع يا حاج عبد الفتاح؟ أجاب: في السابعة صباحا ويستمر حتي الخامسة مساء.. هناك ساعة واحدة راحة لتناول طعام الغداء. شعرت بالحزن من أجل العامل السويسري، كيف تسمح جماعات حقوق الإنسان في أوروبا بأن يعامل العامل هناك بهذه الوحشية.. يبدأ العمل في السابعة صباحا؟ يا للوحشية.. عمار يا مصر.. تذهب إلي الورشة لكي تصلح شيئًا في سيارتك، صاحب الورشة لم يأت بعد، الذي أتي هو صبيانه، فتحوا أبواب الورشة وجلسوا في انتظاره بلا عمل.. وجاء صاحب الورشة، لابد له أولاً من أداء صلاة الظهر، أذان الظهر عادة يكون في الثانية عشرة، وتتعدل المواعيد لأسباب غير مفهومة فيتعدل موعد أذان الظهر ليكون في الواحدة، لن يعمل قبل الثانية بعد الظهر، من الثانية بعد الظهر حتي الخامسة هي فترات خمول في الجسم البشري، لذلك لا تراه يعمل بهمة ونشاط، غير أنه سيتمكن من إنجاز ما تطلبه منه، قلبي مع العامل السويسري المسكين، بل قلبي مع كل عمال العالم التعساء الذين يبدؤن يومهم في السابعة صباحا. أيها السادة.. أرجو ألا تستاؤا عندما أقول لكم: نحن لا نعمل في مصر، نعم.. نحن نذهب إلي أماكن عملنا ونمارس ما نعتقد أنه العمل، غير أننا لا نعمل.. نحن أشبه بمولد كهربائي طاقته مائة أمبير ولكننا برمجناه لأسباب غير مفهومة علي أن يخرج أمبيرًا واحداً فقط. أنا أعتقد أن فكرة العمل ذاتها كمفهوم ليست واضحة في أذهاننا وهو ما يفرض علينا أن نعمل علي إعادة ضخها في عقول الناس، ليس علي طريقة «العمل شرف، العمل واجب، العمل عبادة»، ولكن عن طريق فكرة أخري عملية هي: اعمل.. أو تموت جوعًا.. اعمل أو أن مصنعك سيغلق أبوابه.. اعمل أو أن أصحاب المصنع سيأتون بعمال من الصين أو شرق آسيا، طبعا قوانين الدولة ولوائحها تقوم بحمايتك حتي الآن.. حتي في الأوقات التي تتمكن فيها ببلطجتك ودلعك وكسلك ودلالك، من غلق أبواب مصنعك ودفع صاحبه للهروب، وبعدها تتفرغ للجلوس والبيات علي الرصيف مسلحًا بالطبلة والطار والأكاذيب.. غير أن هذا وضع مؤقت، سترغم الدولة علي السماح بالعمالة الأجنبية علي أوسع نطاق عندما تكتشف أن الحركة الصناعية في مصر مهددة بالزوال، هذا هو المفهوم الجديد للعمل.. أنت لا تعمل ولا تنتج شيئا ذا قيمة غير أنك ستناضل من أجل الحصول ليس علي أجرك فقط بل علي حوافزك أيضا.. لست أتكلم فقط عن طبقة العمال، بل عن أصحاب الياقات العالية أيضا. كيف نبدأ ومن أين نبدأ؟ ما حكاية أن يعمل الناس في العاشرة صباحا؟ لقد بدأت هذه الحكاية منذ خمسة وثلاثين عاما تقريبا، ووقتها كتبت أحذر من ذلك واستشهدت بأكبر قدر من الأمثلة والأقوال الشعبية التي تتكلم عن الاستيقاظ مبكرًا والعمل مبكرا، وحتي الآن لم يقل لي أحد ما السبب في اتخاذ هذا القرار الغريب المميت. علي الناس أن تعمل في الصباح الباكر، هذا ما كان سائدًا في مصر منذ ستين عامًا، الذهاب إلي العمل متأخرا عيب اجتماعي وإنساني وأخلاقي.. علي الإنسان أن يعمل لأربع ساعات قبل صلاة الظهر.