في كل ليلة كنت أطلب من جدتي أن تحكي لي نفس الحدوتة، حدوتة القرد الذي أكل الفرخة، وفي كل ليلة كنت أشعر بدرجة عليا من الاستمتاع، كان القرداتي يطهو فرخة علي نار الكانون، وكان ينقصه بعض البهارات فخرج إلي عطار قريب ليشتريها وطلب من القرد ألا يقترب من الحلة، غير أن القرد اقتادته نفسه الأمارة بالسوء إلي فتح غطاء الحلة وإخراج الفرخة ثم التهامها، بعد أن شعر بالامتلاء ، راحت السكرة وجاءت الفكرة، ماذا سيحدث له عندما يكتشف القرداتي اختفاء الفرخة؟ هداه تفكيره إلي اصطياد طائر آخر فورا، خرج من الغرفة إلي الخلاء ثم مال برأسه علي الأرض بعد أن رفع مؤخرته الحمراء إلي السماء، شاهدتها حدأة فانقضت عليها نازلة من السماء بسرعة البرق ،بعد أن تصورتها قطعة لحم حمراء، في تلك اللحظة قبض عليها بيده ودخل بها إلي الحجرة ليضعها في الماء المغلي و يحكم عليها الغطاء، ثم جلس ينتظر صاحبه في هدوء وبراءة. جاء القرداتي، رفع غطاء الحلة ففوجئ بالشوربة وقد امتلأت بريش الحدأة، علي الفور أدرك ما حدث، ففقد أعصابه ونزل ضربا في القرد الذي ارتفعت صرخاته، كن مع القرد أو لتكن مع القرداتي، في الحالتين المشهد لا يصلح دراميا ليكون نهاية للحدوتة، لحظة واحدة من فضلك، بجوار كوخ القرداتي كان يوجد قصر الملك الذي تصادف أنه كان ينظر من شرفة قصره وتابع الحكاية كلها، فانفجر ضاحكا، هذا الملك كان ( علي قلبه علّة واتفشت) فشعر بامتنان كبير لهذا القرداتي وقرده فقربهما منه، فأقاما معه في القصر وارتاحا من حياة الشارع. في تلك السن الصغيرة فشلت في معرفة معني ( العلّة) التي كانت علي قلب الملك، ثم معني كلمة (اتفشت) تطلب الأمر مرور عشرات الأعوام لكي أعرف أن الملك كان يعاني من حالة اكتئاب حادة، ولكن ماذا كان ممتعا في حكاية أنا أعرف تفاصيلها جيدا، ماذا هو العنصر الممتع في (التكرار) ؟ تطلب الأمر أن أتعرف علي السيد فرويد لكي أعرف منه أن العقل البشري فيه ميل غريزي جبري للتكرار (compulsion to repeat) من السهل أن تتعرف عليه كأهم مصدر من مصادر اللذة بوضوح عند الأطفال. أما الشيء الذي لم يقله فرويد، ويقوله بعد إذنك كاتب هذه السطور ، أن هذا الميل داخل العقل وظيفته الأساسية تدريب العقل البشري علي معرفة الخطأ والصواب كما تراه الجماعة. من مصطلحاتنا الشهيرة، أن ( التكرار يعلم الحمار) بالتأكيد نحن في طفولتنا، نكون حميرا، بمعني أن عقولنا صفحة بيضاء لم يكتب عليها شيء بعد، التكرار بما يبعثه من لذة، كانت وظيفته أيضا أن أتعلم أن القرد أخطأ عندما استسلم لرغبته وأكل الفرخة، ثم أخطأ مرة أخري عندما تصور أنه سيفلت بجريمته، كان من المهم أن أتعلم أن حيلة القرد البارعة في اصطياد طائر آخر، لاتعني أنه ذكي، هي حركة خبيثة فقط تعني القدرة علي التفكير الشرير الذي ينتهي أمر صاحبه بالانكشاف، وهو بالضبط ما أريد أن أقوله لك، الذكاء هو ذلك التفكير الذي يعود بالخير علي الجماعة وعلي نفسك، أما الخبث فهو أن تصطاد حدأة وتضعها في الحلة بدلا من الفرخة فينكشف أمرك بعد لحظات. ربما تعلمت أيضا أنه من الخطأ أن أترك أكل عيشي في حراسة قرد ، وأن الحواديت فقط فيها ملوك ينقذون التعساء، أما أنت فلن ينقذك أحد عندما تخطئ.