بشكل بحثي مع مزيج من التجارب الشخصية الذاتية، ترصد الدكتورة سامية محرز، أستاذة الأدب العربي بقسم الدراسات العربية والإسلامية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في كتابها «حروب الثقافة في مصر» معارك المثقفين المصريين والأزمات الثقافية طوال قرن مضي وبدايات القرن الحالي، ومحطات صدام الثقافة بالسياسة والسلطة الدينية، ولا تكتفي بمجالات الأدب والفنون الكتابية فقط، بل تتعداها إلي نواحي الثقافة والفنون الأخري البصرية من السينما إلي التليفزيون إلي الفنون التشكيلية. تحلل د. محرز في البداية العلاقة التي تربط بين الدولة ومجالات الثقافة، وتؤكد أن الثقافة غالبا ما يتم التمسك بها مادامت تحقق واجهة تبدو حداثية ومستنيرة ومنفتحة وعلمانية. لكن الواقع أن هذه العلاقة مع الوقت تتحول إلي سيطرة وهيمنة من قبل مؤسسات الدولة والنخب، ومع ذلك فإن هيمنة الدولة - كما تري محرز - لا تعني بالضرورة قمع الثقافة، ولكن ما حدث أن المثقفين أصبحوا موظفين لدي الدولة في ضوء احتياجها لهم ضد المد الديني. تنتقل محرز بعد ذلك إلي حركات المثقفين السياسية والاحتجاجية ومن أبرزها «أدباء وفنانون من أجل التغيير»، وتنتقد محرز أشكال احتجاجات المثقفين في مصر بأنها تأخذ طابعا متقطعا وموسميا، فتتساءل: لماذا يبدو في البدء الترابط قويا بين هذه الحركات وبين مطالب التغيير عموما التي تنشدها الحركات العمالية والطلابية وغيرها، وفي لحظة ما لا يستمر هذا الترابط؟ وتجيب بأن ذلك راجع إلي التضارب في مصالح المثقفين داخل الساحة الثقافية، وكذلك تضارب في مواقفهم من الدولة، ومن علاقتهم ببعضهم أيضا، ويظل التشكيك قائما في نوايا المدافعين عن الحريات من المثقفين أنفسهم، لأن لكل أغراضه، وهذا هو المعني الخفي للحروب الثقافية الذي تقصده محرز، والذي يؤدي إلي فشل أي جبهات موحدة أو عمل جماعي للتصدي لقضايا المثقفين، ومن هنا تطلق الأستاذة الجامعية دعوتها بضرورة استقلال المجال الثقافي. 1-1998 السيرة المحرمة هل تحتاج إلي تدريس؟! دخلت هذه السيرة الذاتية لكاتبها الروائي المغربي محمد شكري الأدب العربي المعاصر خلسة، صدرت أولا بالانجليزية بترجمة بول بولز، ثم بالفرنسية بترجمة المغربي أيضا الطاهر بن جلون وأخيرا بالعربية علي نفقة الكاتب، تلك السيرة المنقوصة حتي بعد صدور جزءها الثاني «الشطار»أثارت صدمة بصراحتها وحديثها عن العلاقات والرغبات الجنسية الشاذة والمحرمة، ومن ذلك تلك الأزمة التي اندلعت عقب الإبلاغ عن قيام الجامعة الأمريكية بالقاهرة بتدريس الرواية ضمن مناهجها، ومحاولة منع تدريسها بحجة الحفاظ علي أخلاق الطلبة، وهي الدعوي التي رفعها أولياء الأمور وتضامن معهم بعض أساتذة الجامعة أنفسهم، ووصلت إلي البرلمان ودخلت في القضية أيضا وزارة التعليم العالي، وفي المقابل أبدي قليلون اهتمامهم بتجسيد تلك الرواية لحياة المتشردين والفقراء، الذي كان المؤلف واحدا منهم، حيث كتب عنه «يأخذنا إلي الخبز المبلل بالأسي وغريزة البقاء، وإلي حياة مراهق متشرد في العالم السفلي، حيث تمتزج الرغبات بالعنف والدعارة، وحيث لا شيء سوي محاولة التحايل علي الحياة بفتات الحياة». 2-2004 بحب السيما البحث عن صورة تهرب من الواقع في أزمة فيلم "بحب السيما" تستنكر د.سامية محرز تدخل النموذج الديني المتشدد سواء الإسلامي أو المسيحي كطرف في معظم الأزمات الثقافية، المشكلة لها علاقة في هذه الحالة ب"الهواجس" التي من الممكن أن تتبناها فئة أو طائفة ما استنادا إلي حضورها وتواجدها الفعلي في المجتمع. وربما لهذا جري تداول تلك الأزمة علي أنها ضريبة يدفعها الفن حيال ارتباك السياسة، صحيح أن هناك مشاهد بعينها في الفيلم أثارت حفيظة الأقباط، مثل الشاب الذي يقبل الفتاة في الكنيسة، وخيانة الزوجة لزوجها المتزمت، وتكرار الشتائم علي لسان أبطال الفيلم المسيحيين، لكنها من وجهة نظر الكتاب لم تثر لذاتها، بل لما تتضمنه الرسائل من ورائها، ومن هنا كان السؤال الرئيسي الذي يواجه أي مشهد صادم من هذا النوع في الفيلم هو: ما الذي يقصده المخرج؟ وماذا يريد أن يقول؟ وبدا الصراع ضد الفيلم هو في حقيقة الأمر صراع علي الصورة. نسأل مع محرز: ما حدود الفن في تناول الشخصيات المسلمة والمسيحية في الأعمال الدرامية والسينمائية؟ وهل الشر أو الانحراف جائز ظهوره في إحدي الشخصيتين ومحرم علي الأخري؟ 3-1959 أولاد حارتنا الحدود بين «النخبة» و«القاع» بالتركيز علي مستوي القراء ونوعيتهم بحسب تقسيمات "الجيندر" تتناول سامية محرز تلك الأزمة، وتطرح علامات استفهام عديدة أمام مصطلح الأدب المثالي، وتقول المؤلفة ظهرت تلك الرواية مسلسلة علي صفحات جريدة الأهرام، بعد صمت أدبي من نجيب محفوظ دام سبع سنوات، منذ نشره "الثلاثية عام 1952، وهذا دليل علي ترسيخه كروائي صاحب نفس طويل. ورغم ذلك من المعروف أن الرواية التي تترجم أحيانا إلي "أولاد الجبلاوي"، كانت قد صدرت لأول مرة عن دار الآداب ببيروت عام 1962 ولم يتم نشرها في مصر حتي أواخر عام 2006، وقبل ذلك وبعده ظل موقف الهجوم علي تلك الرواية كما هو لم يتغير، بحجة أنها بها مس بالذات الإلهية وبالأنبياء، وتطور الأمر إلي إصدار فتوي بإهدار دم محفوظ، والشروع في اغتياله بالفعل عام 1994. لا يتم التوقف كثيرا حول تداعيات تلك المعركة، ولا حتي مع موقف محفوظ نفسه منها، إلا أن الكتاب ينبه إلي ضرورة إزالة الحدود بين ثقافة النخبة وثقافة القاع. 4-2010ألف ليلة وليلة انتصار مؤقت ضد عقلية الملاحقة في الأزمة الأخيرة ل"ألف ليلة وليلة"، تري محرز أن هناك أطرافا رئيسية للعبة، الأول هو الجبهة الإسلامية المتشددة، والثاني مؤسسات الدولة الثقافية التي تدافع عن الكتاب ليس إيمانا بأهميته، وإنما حرصا منها علي سيادتها. هكذا يثبت التاريخ الثقافي تناقضه، فتجدد الأزمة أكبر دليل علي "تحجر الزمن"، وكأن لا شيء قابل للتطور في المجال الثقافي، والحجة الجاهزة دائما هي الإساءة للأديان والأخلاق والآداب العامة، هذا النص الذي صدر منذ ما يقرب من قرنين وأعيدت طباعته مرارا وبقي متداولا في نسخ عديدة، هو من كتب التراث، هكذا ببساطة لا تختلف رؤية محرز لهذه الأزمة عن غيرها من الأزمات التي تستعرضها في الكتاب، فكما تري فإن الكتب التي تطالها دعوات المصادرة هي دائما من الأدب الشعبي الذي بالضرورة هو مكون أصيل من مكونات الثقافة العامة. حتي مع انتهاء المعركة، فإنه انتهاء قضائي، صوري، مؤقت، لم يلحقه تغيير جذري في عقلية الملاحقة المتحكمة في الشارع المصري، والتي تنذر في أي وقت بتكرار اندلاع أزمات مشابهة.