لم تصدق المذيعة نفسها حين بادرتها الضيفة بأنها سعيدة بالحوار معها فقد تمنت كثيرا أن تقابلها.. أخجلتها كلمات الإطراء من ضيفة بهذا الحجم وهذه «الحيثية» فهي أستاذة جامعية لامعة، تختص بعلم النفس ومعروفة، أي أن مؤهلاتها للتقعر وبروزة النفس، وربما الغرور، موجودة ولكنها تجاوزت كل هذا وتحدثت بحميمية وبساطة فقالت للمذيعة: نعم تمنيت أن أقابلك لأنني سمعتك كثيرا، فأنت جزء من ثقافتنا. كانت المذيعة هي آمال فهمي إحدي علامات الإذاعة منذ سنوات طويلة وحتي اليوم، والضيفة هي د.نسرين البغدادي التي لم أتشرف بمعرفتها شخصيا، ولكنني تشرفت بالاستماع إليها في هذا الحوار الذي دار ظهر الجمعة أمس الأول كان مبعث حرج آمال فهمي أنه من المفترض أن يتم حذف عبارات الإطراء التي يقولها الضيف لها، ولكنها شعرت بأنها كمن يقوم ببناء عمارة رائعة أو عزف لحن بديع يستحق عليه التحية أحيانا بكلمة أو وردة وقالت لضيفتها عبر الحوار: سألت نفسي هل من العيب أن أقبل هذه الوردة؟ كان السؤال يحتمل الكثير من علامات الاستفهام والتداول، فمفهوم الهدية هنا مليء بالمحاذير التي تبدأ من الخوف من المجاملات وتصل إلي خشية انتشار مساحات الدعاية والأحاديث الفجة والتملق في جهاز إعلام عام تابع للدولة ويملكه الشعب، ولكن هناك خيطاً رفيعاً بين الدعاية للنفس والمجاملة وبين التحية وقبولها، خيطاً يتعلق بأمور عديدة أولها هو انتفاء العلاقة النفعية بين المضيف والمستضاف، وهي علاقة توجد غالبا في البرامج المتخصصة في الفن أو الطب أو السياسة إلخ.. وحيث تصب دوائر الاستضافة داخل بعضها مكونة جماعات مصالح أحيانا تبدو واضحة للمشاهد حين يري ضيوفاً بعينهم يتكررون وأنواعاً من المديح والرياء بين الضيوف ومقدم أو مقدمة البرنامج، ويدرك أن هناك أشياء أخري غير البرنامج. هنا في «علي الناصية» المصلحة الخاصة تتراجع، بل تختفي أمام ضيوف من شتي التخصصات والمهن، أو لا يعملون أحيانا وفقا للتصنيف الشائع «ربات بيوت مثلا»، صحيح أنك قد تشعر أحيانا بأن الضيف معروف مقدما، أي مستهدف لأن لديه ما يقوله، أو مشكلة ما ومقدمة البرنامج علي معرفة مسبقة بالموضوع، ولكنه استهداف مأمون، لأنه بعيد عن المصالح الخاصة والصغيرة ويصب في مجري الهموم العامة، لكن القاعدة الإنسانية هنا هي أن المقدمة والمستمع في موقف واحد في انتظار ضيف مجهول واستقبال مفاجآت اللقاء معه، والحقيقة أنه حتي في حالة خلو الحوار من المفاجآت لا يفقد المستمع الرغبة في الاستماع إليه، ولا يمل من أسلوب السيدة آمال فهمي الذي لا يشبه أي أسلوب آخر لأحد من مقدمي ومقدمات برامج الاذاعة، فهي قادرة علي التعبير عن وجهة نظرها فيما تتلقاه من أفكار الغير مهما كانت بعيدة عنها، بدهشة وقدرة فائقة علي الرد عليها بمرونة وبراعة محتمية بحجج بعضها يبدو تقليديا وبعضها يخرج الي آفاق أرحب ليشتبك مع قضايا أخري، ولأن خبراتها الطويلة في التحاور مع آلاف الشخصيات وعلاقتها بما يحدث في الشارع مستمرة وأيضا قدرتها علي هضم كل هذا ومحاولة الاجتهاد في فهمه فإنها لا تنسحب من مناقشة أي فكرة، ولاتترك ضيفها يفرد «جناحيه» وحده عليها وعلي المستمع بدون أن تطالبه بالتفسير والشرح وتنقد ما تراه صعبا. في هذا الحوار اتفقت مع ضيفتها في الجزء الاول فيه فيما يخص علاقة الآباء بالأبناء وكيف أصبحت وما هو السبيل لعودتها قوية ومؤثرة وكان سبب ذلك طلبها من أستاذة علم النفس أن تنصح الآباء والأمهات بما يفيدهم في التعامل مع أولادهم في الإجازة الصيفية، لكنها اختلفت مع ضيفتها حين جاء ذكر الإضرابات العمالية والاعتصامات أمام مجلس الشعب، وليقدم البرنامج فاصل من الجدل المفيد والمهم حول هذا الموضوع استطاعت فيه الضيفة أن تؤصل المسألة وتضعها في شكلها الحضاري الذي لا يقلل من شأن مصر والمصريين بل علي العكس. لم تكن آمال فهمي مستريحة تماما لما قالته الدكتورة ولكنها أدركت بخبرتها أن للضيفة منطقاً محترماً، بجانب حقوق الضيافة، وانتهي اللقاء بود أكبر بينهما بدون أن تقهر المذيعة ضيفتها أو العكس، وربما لهذا السبب تحديدا يشعر الكثيرون من المستمعين بأهمية هذا البرنامج الذي تستوعب فيه المذيعة ضيوفها وتحرضهم علي الكلام بدلا من أن تتكلم بالنيابة عنهم، أو تمارس القهر عليهم، بل إن هناك من المذيعين والمذيعات من يمارس القهر علي زملائه وزميلاته في نفس البرنامج، ويسعي لأن يتحدث الضيف وفق رغبته في الاسئلة أو الأجوبة. تأملوا معي أسلوب أغلب مقدمي ومقدمات برامج التليفزيون الجدد، خاصة الذين يشتركون معا في تقديم برنامج واحد، علاقات المنافسة واضحة، يهجمون علي الكلام من قبل أن يتركه غيرهم، ويوقفون الضيف في أفضل أوقاته بحجة أن الوقت يضيق وبالطبع فهم ليسوا وحدهم وإنما معهم المعدون والمخرجون والمنتجون الذين يكتبون كلاما غير مستوف لشروط الجودة أحيانا أو يصرخون فيهم عبر جهاز السماعات المتصل بالاستديو «الايربيس» ليسألوا عن هذا الشيء أو ليقفلوا الحديث لأن الوقت لا يسمح بإكمال الفقرة.. هل آمال فهمي ظاهرة استثنائية في مصر؟ نعم ولا.. نعم لأنها مازالت بهذه اللياقة الذهنية والثقافية بعد سنوات طويلة مديدة، ولا لأنه يوجد غيرها من أبناء الإذاعة والتليفزيون في مصر يتمتعون بصفات تصلح لصناعة نجوم مثلها بعضهم حقق خطوات غالبا في الإذاعة والأغلبية تتعثر غالبا في التليفزيون لأنه لا أحد يعطيها فرصاً حقيقية ولا أحد يدربها ولا توجد مختبرات أو ورش عمل مستمرة لدفعها ثقافيا ومهنيا هل السبب أنه ليس هناك وقت؟ والأسهل الاستعانة بناس من خارج الإذاعة والتليفزيون؟ ربما يكون هذا منطقاً.. ولكن ليس في جهاز للدولة، بلغ عمر الأخ الكبير فيه أي الإذاعة 76 عاما بالتمام والكمال.. والأفضل له أن يقوم بواجبه مهما تغيرت الظروف.