مات محمد عابد الجابري، وقبله مات فؤاد زكريا وعبد الكبير الخطيبي، وقبلهما عبد الرحمن بدوي وعبد الله القصيمي وفؤاد كنعان ويوسف حبشي الأشقر ويوسف الخال ، ماتوا مثل شهداء، ومثل متصوفة، ماتوا بملابسهم، وبغير جوائز، وبغير الكتب الأكثر مبيعا، وبغير مناصب، وبغير سماوات زرقاء تحميهم، وأراض واسعة تؤويهم، كل واحد منهم عاش علي روحه، وكتب علي روحه، ثم مات علي روحه، وأيقظ شلالات الأسي في نفوس الأحياء الباقين بعده، وأيقظ الشلالات في نفسي، فانغمرت تحتها حتي تأسيت بالقدر الكافي، وبعدها قلت في سري: يا عبد المنعم لقد كثرت أقوالي في حق علاء الأسواني، ولابد أن أنصفه مني، لأن الموت لا محالة قادم، خاصة أن ابني يحبه أحيانا ويهاجمني من أجله، وخاصة بعد أن أشيع أنه أحد أعوان السيد الرئيس، والحقيقة أنني أخاف من كل الرؤساء، ومن كل أعوانهم، وأخاف من المرؤوسين، وأخاف من الموتي، وأخاف من محمد عابد الجابري، ومن هشام شرابي ومن هادي العلوي ومن فؤاد التكرلي ومن حسين مروة ومن مهدي عامل، وأخاف من شلالات الأسي عليهم، وبسبب هذا الخوف، وبسبب صوت الشلالات، تأسيت ثانية، ثم قلت لنفسي : يا عبد المنعم لقد كثرت أقوالي أيضا في حق جابر عصفور، ولابد أن أنصفه مني، خاصة أن زوجتي تحبه دائما، وتهاجمني من أجله، وخاصة بعد أن أذيع أنه المرشح الدائم لجوائز الشيخ زايد والسلطان قابوس والملك فيصل والطالباني والأسد وعلي زين العابدين وعلي عبدالله صالح، سألتني زوجتي: جوائز من؟ قلت لها: لا تندهشي، فكلها جوائز سوف تنشأ فيما بعد، أما الخاصة الثالثة فلأنه الحاصل الأول علي جائزة الزعيم، والحقيقة أنني أخاف من الزعماء، ومن جوائزهم، وأخاف من المزعومين، وأعلم أنهم كلهم يراقبوننا، ويراقبونكم، ويراقبونني، وأنهم يحبون أن يروا كيف وضعت يدي علي قلبي، وعلي عيني، وعلي رأسي، وكيف وضعتها في جيبي، وكيف أخرجتها بيضاء من غير سوء، وكيف تأملت ما أنا فيه، ولم تأملت ما أنا فيه، وجدتني أجلس وحدي أمام طاولة طعام وكتابة، وأوراقي مبعثرة، فأدركت فجأة أنني لا يمكنني أن ألوم أحداً لأنه قبل جائزة قيمتها مليون جنيه فقط، ولا يمكنني أن أطالبه برفضها، مادمت وأنا الغني القادر لا أستطيع أن أرفضها إذا منحوها لي، وأنني أيضا لا أستطيع أن ألوم أحداً لأن مؤلفاته الأكثر مبيعا، بلغت المليون نسخة فقط، ولا يمكنني أن أطالبه بإنكار ذلك، فأحلامي العاجلة، كلها تدور كالبهلوانات حول كتبي، وبعد أن تدور ، تخلع الأقنعة وتتدحرج، وبعد أن تتدحرج تدفع كتبي أمامها، تدفعها بقوة أنفاسي، فأري كتبي تقع كالطيور النائمة في أحضان راكبي المترو، وراكبي القطارات والطائرات، وفتيات الاستربتيز، وفتيات الفنادق، وصعاليك نصف الليل، وهيفاء وهبي وسمية الخشاب وبسمة، وأنصار السلام الآن، ورواد الجريون واليوناني واستوريل والأتيلييه، وأنصار أبي بيجين وأمي جولدا وخالتي فدوي طوقان، وطابور الفواطم الأربع، ولما تذكرت الفواطم، فزعت، وصدرت مني آهة عالية، وانفتحت عيناي، وخرجت من أحلامي بكامل ملابسي، لأجد نفسي وحيداً علي كرسي في مقهي زهرة البستان، مكاوي سعيد غير موجود، ناجي الشناوي غير موجود، عمر الفيومي غير موجود، إنني وحدي، بعد قليل أتي شاب أسمر له لحية، ومعه حقيبة كأنها مخلاة، وبصحبته فتاة بيضاء طرية، وجلسا علي مائدتي، استغربت فالموائد خالية، طوال جلوسهما لم تنظر الفتاة إلي أحد، ولم تنظر في وجه صاحبها، بعد قليل قالت له وهي منكسة الرأس وبصوت خفيض: لابد أن أذهب الآن، فهو ينتظرني في مكان قرب منزله بالمعادي، الشاب لم يرد، ولما ذهبت، التفت ناحيتي، وقال: اسمي م.ج.، كنت شاعرا وتوقفت، سألته: لماذا؟ قال: ديواني الذي نشرته وعنوانه (أعاصير في أعاصير)، لم يبيعوا منه غير عشرين نسخة فقط، دار النشر آسفة بسببي، وطيف علاء الأسواني يطاردني، فأنا لم أنافسه كما تصورت، وطيف جابر أيضا يطاردني، كنت أظن أنني باستحقاقي وشرعية وجودي سأنافس جابر علي الجوائز، لكن الخبراء قالوا لي: صح النوم يا سيد ميم، الجوائز محجوزة دائما، عرفت أن الجوائز قد تكون فضيحة فساد النخبة الثقافية، وأن الأكثر مبيعا أيضا قد يكون فضيحة فساد الذوق العام، سألته: وهل يعرفك صلاح فضل؟ قال: لا، لا يعرفني ولا يعرف وحيد الطويلة صاحبك، إنه يعرف صاحبتي، هي روائية، وتوشك بفضله أن تنال جائزة، وأوشك بفضله أن أفقدها، أحببت أن أتجنب تفاصيل حياته الشخصية، فتكوم وجهي وتلبد وقلت كأنما أقول لنفسي : لله الأمر من قبل ومن بعد، لقد أماتوا اليوم محمد عابد الجابري، وغدا وبعد غد سوف يميتون عبد الغفار مكاوي وسعيد عقل وحليم بركات وعبد الله العروي وفاطمة المرنيسي وخالدة سعيد ومحمد أركون والطيب تيزيني وهشام جعيط وجورج طرابيشي، كان م.ج يحدق إلي وجهي وفمي، سألني ماذا تقول؟ قلت: لا تؤاخذني يا أخ ميم، هل هناك فروق بين الجوائز، قال: كلها متشابهة، المجنون هو من يعترض علي إحداها وكأنها الأكثر عاراً، والمجنون الآخر هو من يمتدح إحداها وكأنها الأكثر نبلاً وفخاراً، ثم سألني: هل تعرف بييرلوتي؟ قلت: لا، قال: أظن أنني مريض جداً، فأنا أتذكر دائما بييرلوتي، أصدقائي استبدلوا باسمي اسمه، إنهم ينادونني يا بيير يا بيير، رأيت العرق ينشع من جبين بيير، أقصد من جبين م.ج، ثم رأيته يسكت ويغمض عينيه، نظرت إليه طويلا، كنت أحاول أن أضبط نفسي، أحاول نسيان بييرلوتي، وأفكر في أن الجوائز تعرف طلابها، فكرت أن الكتّاب جميعا دون الحمقي والمغفلين منهم، يقسمون الحياة قسمين، مواسم البذار وهي طويلة أحيانا، ومواسم الحصاد وهي أطول غالبا، وهم في مواسم الحصاد، يسعون بإخلاص في كل اتجاه، يخرجون علي باب الله، ويرفعون أيديهم ويبتهلون ويسألونه اللطف ويرجون جائزة، ويعتبرون البذار هو الطفولة، وجني الثمار هو النضج، خبطت جاري وسألته: هل الجوائز تعرف طلابها، قال: جداً، ثم قال: إنني مريض وأنت تجبرني أن أحدثك بحديث لكثرة تفكيري فيه سيبدو لك وكأنني أقرأ عليك من كتاب، أومأت برأسي، فاستطرد: انظر حولك، ستجد أن أغلب طلاب الجوائز شخصيات عامة، أغلبهم طلاب دنيا، أغلبهم ليسوا من أبناء الرب، إنهم أبناء الأنظمة التي ترعاهم، وأغلبهم أصحاب كتب تناسب أنصاف العارفين، تناسب أواسط الناس، تناسب الجمهور العام، أقول أغلبهم لأن بينهم استثناءات ضرورية، حياّني من بعيد عمرو خفاجة ووحيد الطويلة وناهد شاهين، قال: أتعرفهم، قلت: نعم، ولكن أرجوك أكمل، قال: هل تعرف أن صاحبتي اعترفت لي بأنها لا تحب قراءة أدونيس وأنسي الحاج وتوفيق صائغ وأبي العلاء المعري وذي الرمة، لأنها معهم تشعر بنقص معارفها، وقصورها، بينما تحس بالطمأنينة والثقة إذا قرأت البياتي وأمل دنقل ومحمود درويش وأبا العتاهية طبعا الجوائز تعرف طلابها، أغلبهم قادرون علي العطاء والأخذ، والعطاء من جيوب الدولة، والأخذ من جيوبها وجيوب الدول الأخري والأشخاص الآخرين، هناك تنظيم قوي يقوم بإدارة تلك الجوائز وتدويرها وتداولها، ومع ذلك لن تجد أحدا من أصحابك بينهم، قلت وهل تعرف أصحابي، قال: هاها، طبعا، فاطمة المرنيسي وشوقي أبوشقرا وحنان الشيخ وسليم بركات وهدي بركات ونجوي بركات وعبد الفتاح كيليطو وحسن داود ومحمد خضير، كلهم أكثر استحقاقا ممن يختارهم صلاح فضل ورفاقه، ولكن صلاح اختار صاحبتي أيضا، علي الأقل وعدها وقد ذهبت إليه الآن، هل تعرف بييرلوتي، قلت: لا، وقبل أن يكمل كلامه عاجلته، هل تعرف أنت محمد عابد الجابري، قال: نعم، قلت: هل تعرف أنه مات اليوم، وأنه لم يحضر أي نشاط في القاهرة، لعله عوقب، سألني: ولماذا عاقبوه، قفزت إلي سقف رأسي العبارة التي كتبها الجابري في أحد هوامش كتابه العمدة (تكوين العقل العربي): إن كتاب الصورة الفنية والتراث النقدي البلاغي هو من الكتب الجيدة في الموضوع، أما سلسلة أحمد أمين فمازالت لم تتجاوز رغم كل ما يمكن أن يؤخذ عليها، سألت جاري: من بييرلوتي؟ قال لي: سؤالك تأخر كثيرا وكذلك شغلتني بالجوائز، أريدك أن تصدقني القول، هل رواية عبده خال هي الأفضل هذا العام، قلت: لا، قال: هل هي ضمن العشر روايات الأفضل، قلت: لا، قال: ولا العشرين، قلت: لا، قال: هكذا هكذا، بييرلوتي مسكين إذن، إنه الأمي الشامخ، استقبله ملوك أوربا وملوك الشرق، وفي استانبول نكسوا الأعلام يوم وفاته، كتبه لم يعد أحد يقرأها، ولن يقرأها أحد فيما بعد، وعمارته سقطت، ناظم حكمت كتب عنه: وأنت، أنت يا بييرلوتي، هل تري، نحن نُخرج قمل التيفوس من جلودنا الصفراء، ومن أنفسنا، والقمل أقرب إلينا منك، أنت أيها الضابط الفرنسي، ها هي صاحبتي أتت، التفت إليها، وسألها: ماذا فعلت ؟ لم تعد بيضاء، لم تعد طرية، صرخت في وجهه : أولاد الذين، كلهم أولاد الذين ، انزعجت، لم أشأ في حالتي تلك أن أجالس عمرو خفاجة ووحيد الطويلة وناهد شاهين، انصرفت وعدت إلي منزلي، زوجتي قالت لي: شكلك غريب، فقلت: إنني بييرلوتي، قالت: من فعل بك ذلك، قلت: أولاد الذين، فتحت التليفزيون ، فوجئت بنور الشريف يقولها صريحة أفضل من الفتاة ومني ، فهدأت فورا ونمت.