الحادثة تخلو من ذكر كل ما هو شخصي، لأن ما هو شخصي ليس مادة صالحة للنشر، وللحادثة شهود، بعضهم يمكن أن ينكرها حفاظا علي مصالحه الراهنة، في أوائل التسعينيات تولي جابر عصفور أمانة المجلس الأعلي للثقافة، ورغب في الاستعانة بأصدقائه، وقبلت أن أصبح عضوا بلجنة التفرغ، كان جابر رئيسا للجنة، ولما نصحته فيما بعد أن يتولي رئاستها ويحمل آثامها شخص سواه، أخذ بالنصح وفعل، فتحي غانم ولطيفة الزيات ورءوف توفيق ولينين الرملي وسمير غريب كانوا بعض أعضاء اللجنة، كان سمير في الوقت ذاته رئيسا لصندوق التنمية الثقافية، وكان جابر يجامله ويراعيه، فسمير هو الأقرب - أيامها- إلي وزير الثقافة، وجابر مازال يتحسس خطاه، كنت أصغر أعضاء اللجنة، فيما عدا سمير، في الاجتماع الأول تعارفنا، أحببت فتحي غانم، والتصقت بلطيفة، وتذكرت سلسلة كتب السينما التي أنشأها رءوف، لينين فيما بعد سيحبه ابني، وواجهت سمير غريب، كانت علاقتي بلطيفة بلغت حد المحبة أثناء رحلة سابقة إلي باريس، اعتبرتني أمارة الشباب الذي كانته، اعتبرتني امتدادها علي الأقل داخل اللجنة، في الجلسة الأولي سلمونا أوراقا كثيرة من تلك الأوراق التي قد تفيد أو لا تفيد، مكافأة التفرغ التي ظلت ولزمن طويل مخجلة، تمت زيادتها لتتراوح بين خمسمائة وسبعمائة وألف وألفين من الجنيهات المصرية، الفنانون التشكيليون، أصل فكرة التفرغ، غالبا ما ينالون المكافآت الأعلي، في الجلسة الثانية التي رأسها وأدارها جابر، كان من المفترض أن يتم تحديد أسماء الفائزين بمنح التفرغ في الفروع المختلفة، المعمول به أن الراغب في التفرغ يتقدم بعملين أو ثلاثة ، لا أذكر ، من أعماله المنشورة، التي سوف تحال إلي ثلاثة محكمين يمنحونه درجات تجمع وتقسم لتحديد متوسط الدرجات، ويقوم مقرر اللجنة ومعاونوه بترتيب أسماء المتقدمين حسب درجاتهم، الأعلي فالأدني، وإعداد كشوف بذلك، فور اكتمالنا وزعوا علينا تلك الكشوف، أذكر أن عدد الشعراء المتقدمين كان يزيد علي الثلاثين، قرات كشف الشعراء، ثم نظرت إلي تقارير المحكمين، داخلني الشك، فبعض أصحاب قصيدة النثر، وقعت نصوصهم في أيدي محكمين معادين لهذا الشكل، ونالوا أصفارا، وكذا بعض أصحاب شعر الوزن، وقعوا في أيدي محكمين منحازين إلي قصيدة النثر، ونالوا ما يشبه الأصفار، قلت لنفسي: لعله المقرر هو من يفعل ذلك، فمن أجل أن يستبعد من لا يريد، يحيله إلي حكام يسيئون إليه، ومن أجل أن يخدم صديقا له، يحيله إلي حكام مشهورين بالسخاء، أعلن جابر أن الوقت ضيق، وأننا في نهاية هذه الجلسة سنقرر أسماء الفائزين في كل الفروع، أكلني لساني، أنا أصغر الأعضاء فيما عدا سمير، وطلبت الكلمة، وتساءلت لماذا نجتمع إذا كانت الكشوف معدة، والأسماء مرتبة، وسوف يتم اختيار الأسماء الأربعة أو الخمسة الأولي من كل كشف، هل دورنا أن نوافق، يمكن للأمر أن يتم بدوننا، وأعلنت شكوكي في نزاهة المقرر، وشكوكي في نتائج المحكمين بسبب إعطاء النصوص لمن يخاصمونها أصلا، وسوف يزعم المقرر أنه لم يلتزم بأسماء المحكمين الذين حددناهم لكل حالة، لأنه فشل في الاتصال بهم، إن النتائج غير صائبة، فتحي غانم أيدني تماما، فأكسب كلامي قوة، لكن جابر اعتذر بأننا لا يمكن أن نعيد الأمر، ونستشير محكمين جددا، لأنه سيعلن النتيجة غدا، أكلني لساني ثانية، واقترحت أن نلغي النتائج، ونقوم نحن بالتصويت علي أحقية المتقدمين، الحقيقة أن جابر عصفور كان مرنا، ووافق، وكل الأعضاء وافقوا، فجأة أحسست أننا سننزلق إلي هاوية سحيقة، قلت ولكن السادة الأعضاء معذورون، فعلي سبيل المثال آخر شاعر يعرفونه هو أمل دنقل، والمتقدمون من أجيال تالية علي أمل، قالوا: فليكن، وأثناء التصويت كان أغلبهم ينظر إلي حركة يدي، لطيفة الزيات وفتحي غانم ساعداني، واخترنا الأول والثاني والثالث من الشعراء، كان الشاعر رفعت سلام قد أتي في مركز متأخر، ربما الثالث عشر بالكشوف القديمة، أصبحت قديمة، وكان الشاعر أمجد ريان يقترب من الثلاثين، التصويت جعل رفعت سلام علي رأس القائمة، أما أمجد ريان الذي أعتقد أنه كان أكثرنا موهبة عندما بدأنا، وهو أكثرنا إخلاصا حتي الآن، وإذا كان يضل كثيرا فبسبب إخلاصه المطلق، أقول، أما أمجد ريان فقد أيدته بشدة، وبشدة مماثلة اعترض عليه جابر، وانتقلنا منه إلي فروع أخري، ثم عدنا إليه، في أثناء الاجتماع دخل أحدهم بورقة صغيرة مطوية، قيل فيما بعد أنها ورقة أسماء موصي عليها من الوزير، كان عمر نجم شاعر العامية قد توفي منذ فترة قريبة، قابلته أول مرة في كلية التجارة جامعة عين شمس، كان طالبا وكنت شاعرا يزور كليته السابقة، وقابلته بعد ذلك كثيرا وصرنا صديقين، وكانت السيدة مايسة زكي أرملته، إحدي المتقدمات للتفرغ، يساندها ويتعاطف مع ترشيحها سمير غريب، لاحظت أن جابر يحتشم كثيرا مع سمير، ويلبي رغباته، علي طاولة الاجتماع وأمام الجميع، قلت لسمير: سأعطي صوتي لمايسة، مقابل أن تعطي صوتك لأمجد، وفعلت وفعل سمير ومثله فعل جابر، كنت أعرف سمير غريب منذ أواخر السبعينيات، التقينا في عرس صديق له، علي أخت صديق لي، وكنا عندما أسسنا جماعة أصوات ونشرنا دواويننا، وثالثها كان ديوان محمد سليمان (أعلن الفرح مولده) والذي زامن مقتل يوسف السباعي ورثاء أمل دنقل له في قصيدة قرأها في المسرح القومي فيما أذكر، كنا لهذا السبب قد نشرنا في خاتمة أعلن الفرح مولده بيانا بعنوان شاعر لكل العصور، أيامها كان سمير غريب يعيش في باريس ويكتب في صحافتها العربية، ولقد تحمس للبيان، حماسته أنشأت علاقة سرية بيننا تجددت بكتاباته عن السرياليين المصريين واتصاله بالسيدة إقبال العلايلي (بولا)، حفيدة الشاعر أحمد شوقي، وصاحبة جورج حنين، هل أقول زوجته، جورج حنين الذي حرصنا علي التنقيب والكشف عن آثاره وأهميتها، كذلك التنقيب عن آثار أصحابه، وقادنا في هذا الطريق أنور كامل وبشير السباعي، كان هناك إذن ثلاثة جسور، جسر من الذكريات يصل بين سمير وبيني، أعترف أنه في ذلك الوقت كان جسرا ضيقا، وجسر من الصداقة يصل بين جابر وبيني، أعترف أيضا أنه في ذلك الوقت كان واسعا أكثر من اللازم، وجسر ثالث من المهارة والشطارة والذكاء كان يقيمه جابر ليصل به إلي قلب سمير، وكنا نشاهد ثبات سمير في مكانه وحركة جابر التي لا تكل، علي الجسور الثلاثة عبر اسم أمجد ريان، وتم قبوله، وإنْ بمكافأة لا تزيد علي السبعمائة جنيه، في فرع القصة كانوا قد أجازوا أسماء سلوي بكر وإبراهيم عبد المجيد وسعيد الكفراوي، أجازوا الأولين بمكافأة قدرها ألف جنيه، والأخير بسبعمائة، وانحنيت وهمست في أذن جارتي الكبيرة لطيفة الزيات، قلت لها: هل أحد أدوار لجنة التفرغ أن تشعل الفتن بين الأصدقاء، إن هؤلاء الثلاثة من جيل واحد، وطبقة واحدة، فلماذا التفريق، هل تعلمين أن إبراهيم وسعيد يدخلان أتيلييه القاهرة معا، وأنهما متلازمان، منذ الغد سيبتعد أحدهما عن الآخر، صدقتني لطيفة، ودافعت عن المساواة بين الثلاثة واستجابوا لها، في اليوم التالي علي الاجتماع اتصل بي أمجد ريان، وأبلغني أن جابر هاتفه أمس وقال له: مبروك يا أمجد، لقد كافحت في سبيل حصولك علي التفرغ، اللجنة لم تكن موافقة، لم أقل لأمجد شيئا، أدركت أنه سيفضل تصديق جابر علي ذكر الحقيقة لو صارحته بها، لإنه يفضل أن ينصفه الناقد المأمول جابر عصفور، مكالمة أمجد جعلتني أحس أنني سأخسر جابر، وربما قريبا، وخسرته للأسف، لم أحضر مرة ثانية اجتماعات التفرغ، وعندما اتصلوا بي أبلغتهم اعتذاري عن الاستمرار.