أخشي أن أكون كمن يحرث في الماء، أو كمن يكرر الكلام باطلاً، أو يقلب في الرماد فتعود النار الي الإشتعال، خاصة في مناخ ملتهب طائفياً لم يعد فيه أحد يريد أن يسمع أو يتحاور أو حتي يهدأ، فالإجابات تسبق الأسئلة بل وتصادرها، والاتهامات قيد الإطلاق، في صورة عبثية ترسمها كل الأطراف بدم بارد وعقل غائب ووعي متجمد، وازدواجية تجمع الأضداد، تطالب بالدولة المدنية وتعيش التطرف، تؤكد علي سيادة القانون وتفعل العرف، تدعو لفصل الدين عن السياسة وتسارع في استنطاق الرموز الدينية حول الصراعات السياسية، تطالب بأن تفصل بين ما لله وما لقيصر وتسعي حثيثاً لاسترضاء قيصر ثقة في ان الله غفور رحيم، تبيع للناس الزهد والتقشف وترك مغريات العالم وتعيش الرفاهية وتحتل المقاعد الأولي والوثيرة والأثيرة، تدعو للغفران وتمارس الإقصاء، تقول بالحرية والحياة وتمارس الموت الأدبي والمعنوي. ربما في هذه الأجواء يصعب الاقتراب من بحث اشكالية الكنيسة والسياسة، أياً ما يكون الطرح، إذ يعتبر كثيرون أن هذا الاقتراب يشتت الجهد القبطي عن مواجهة وضعية الأقباط علي الأرض في ضوء الأحداث الطائفية المتلاحقة، وهو بهذا عمل يصب في صالح اعداء الكنيسة وربما يكون بإيعاز من جهات ما، فنقع في حبائل المؤامرة ونتواجه مع اتهامات التخوين والتكفير والتشكيك، وهو أمر يؤكد مرارة الذهنية الطائفية التي سيطرت علي كل الأطراف، في مجتمع صارت أعصابه عارية وفوق جلده. وقد يدعونا هذا إلي تحديد مصطلح " الكنيسة " وماهيتها، فإذا كنا نقصد بها الكيان الروحي والمؤسسي فهذا يعني أنها معنية ومحملة بدور روحي رعوي لا يتماس مع العمل السياسي ولا يغازله، وهو دور يتعاظم في المجتمعات المتعددة دينياً لأنه يسهم في تأكيد التعايش الإنساني عبر ما تملك من منظومة قيم تحض علي ذلك بل وتجعله مقياساً لصحة الإيمان، وهو ما أوضحه القديس يعقوب الرسول في تناوله لجدلية العلاقة بين الإيمان والأعمال، ويحتاج الي تكريس الإكليروس لكل وقتهم وجهدهم للقيام بمهامهم الروحية والدعوة للملكوت الأبدي عبر حياة تترجم هذا المعني. وإذا كنا نقصد بالكنيسة جموع الناس، فهم في الكنيسة مؤمنون وفي الوطن مواطنون، وهذا يعني أن دورهم السياسي لا ينطلق من الصفة الدينية والكنسية بل من كونهم مواطنين كاملي المواطنة، وهنا نأتي إلي لب المشكلة، إذ عندما يحدث انتقاص لحقوق المواطنين الأقباط سياسياً يدور الصراع السياسي لاسترجاعها وتأكيدها علي ارضية المواطنة، وبلغة أكثر تحديداً أنه إذا كان الأقباط يعانون من تمييز أو فرز لكونهم أقباطا فالمطالبة والسعي لمقاومة هذا وذاك لا ينطلق من كونهم اقباطاً بل من كونهم مواطنين مصريين وحسب. وفي الحالتين الكنيسة المؤسسة والكنيسة الناس فليس للرموز الدينية الكنسية دور سياسي ولا يمكن أن تحسب خياراتهم السياسية تعبيراً عن جموع الأقباط لأن في هذا تكريساً للفرز والتمييز، وبالأساس لا يجب أن تكون لهم خيارات سياسية وليس في هذا تعسف أو انتقاص من حقوقهم العامة والدستورية، فشأنهم في هذا شأن القضاة والشرطة التي تفرض عليهم مهام وظائفهم الحيادية وعدم تبني موقف سياسي ومعارضة آخر، ولعل هذا ما حدا بالمشرع أن يمنع عليهم العمل بالسياسة ما داموا في مواقعهم الوظيفية في منظومتي القضاء والشرطة، وفي ظني أن الكنيسة الإكليروس هي في موقع الأب الروحي من كل أبنائها والانحياز لموقف أو خيار سياسي فيه انحياز ضد خيارات قطاعات من الرعية ممن يرون بغير ما تراه، وهنا يكون السؤال الا يحسب هذا ويروجه البعض خروجاً عن مبدأ الطاعة الأثير عند كثيرين؟!، وهل يحسب هذا ترتيبا علي ما تقدم خطيئة تستوجب التوبة ؟!. أوأليس في هذا ارتداد عن نسق الدولة المدنية؟!، وأخيراً أليس في هذا إيذان بدخول الصراعات السياسية الي داخل المنظومة الكنسية بتقلباتها التي يتحول فيها حليف اليوم إلي معارض الغد، ويدخلنا هذا في دوامة التحالفات والاسترضاءات والضغوط بكل ما تحمله من أخطار وأوزار، لا تتسق وجلال وهيبة الكنيسة؟. فإذا أضفنا الي هذا غياب الرؤية السياسية وفهم متطلبات إدارة الصراع السياسي عن رجل الدين بحكم طبيعة عمله والتزامه الديني والأخلاقي الذي لا يعرف الانتقال بين مساحة الابيض والأسود كما تلونها السياسة، فيكون حكمه وفق اللحظة وبغير تحسب لتداعياتها، وفيها يتحول موقفه ورأيه الي مربع الاتفاق والاختلاف الأمر الذي يحسب عند العامة من المؤمنين الي اتفاق واختلاف مع الكنيسة ومن ثم الدين ، ونضيف الي الاحتقان الطائفي المزيد ونجعل من الدولة المدنية سرابا لا يمكن تحويله الي واقع. ويمكن أن ترتب الكنيسة المؤسسة آلية تعلن من خلالها موقفها الديني من الإشكاليات المجتمعية والقضايا العامة بشكل موضوعي غير مشخصن كإنشاء مكتب اعلامي رفيع المستوي يرد علي اسئلة الاعلام أو الشارع بشكل مجرد، يحميها من تضارب المواقف أو تحميلها شطط أحد رموزها، هنا أو هناك، خاصة في اللحظات الفارقة التي يوظفها البعض لصالح طموحات ضيقة وذاتية تدفع ثمنها الكنيسة من سلامها واستقرارها وحياديتها. وابتعاد الكنيسة عن الدخول في معترك السياسة سيسهم في خروج الاقباط الي المشاركة في الشأن العام ويدفع بالاندماج خطوات كبيرة الي الأمام لنصل الي وطن واحد وشعب واحد وتتأكد حقيقة ان مصر لكل المصريين، ونقطع الطريق علي دعاة الدولة الدينية ونسهم بفاعلية في تجفيف منابع التمييز والفرز والتطرف.