يقدم لنا كاي بيرد حائز البوليتزر في كتابه "عبور بوابة ماندلباوم"، خلطة ذكريات شخصية مع التاريخ العام للقدس ثم المناطق التي تنقل فيها المؤلف في الشرق الأوسط خلال حقب مختلفة من 1956 إلي 1978، يحكي عن سنوات الطفولة والصبا في إسرائيل والسعودية ومصر ولبنان، ويقدم ذلك فيما يشبه دراسة شاملة عن منطقة الشرق الأوسط، بداخل الكتاب يمنح بيرد وجهة نظره في النزاع العربي الإسرائيلي، وهناك ملامح عن القاهرة أيام حكم عبدالناصر، وجزء آخر يحكي عن أصدقاء عائلة الكاتب الأمريكية (من بينهم شقيق أسامة بن لادن الأكبر). قدم والد بيرد "يوجين بيرد" وهو موظف في وزارة الخارجية الأمريكية، مع أسرته إلي القدس عام 1956 ليتسلم مهام عمله الجديد كنائب القنصل الأمريكي بالقدس، وكان علي بيرد الصغير أن يجتاز "بوابة مندلباوم"، وهي الخط الفاصل بين إسرائيل والأراضي الخاضعة لسيطرة الأردن، أو بين فلسطينالغربيةوالشرقية، وعلي مدار 22 سنة بعدها عاش وتنقل بيرد ما بين إسرائيل والأردن ومصر والسعودية ولبنان، وفي كتابه يدمج ببراعة بين التاريخ الشخصي وقصة العائلة، وبين اضطرابات التاريخ العام التي اقترنت بهذه الفترة من 1956 إلي 1978 ولذلك فسيرة العائلة الأمريكية تغطي أخطر ثلاثة حروب كبري في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. تقدير رائع وحميمي لمعضلات التاريخ، هكذا جري وصف الكتاب في أوروبا، قيل أيضا أن صاحبه يؤكد عمليا أن الطريق إلي السلام يمر عبر بوابة السرد الشخصي، فنحن لا نحتاج فقط للاتفاق مع تحليل بيرد لطبيعة الصراع وحقيقته الذي قدمه في تاريخه الشخصي، بل السماح لقصصه الشخصية بأن تساعدنا علي المشي قدما لاجتياز بوابة أخري هي البوابة المعنوية، وكان هذا الرأي الأخير رأي أحد الحاخامات ممن قرأ الكتاب.. وقف بيرد بعيدا عن حاضر الشرق الأوسط المخيف، ليخلق صورا فاتنة من الماضي القريب، لقد نشأ في وقت التماس بين العرب والإسرائيليين، في وقت كانت فيه أمريكيا كما يقول المؤلف في ذروة البراءة والقوة معا، لكنه في نفس الوقت لم يحاول تزيين الماضي، لأنه عاصر المنطقة وهي مظللة بالمحن، إنه فقط يقدم معطيات التسليم بعالم ذهب إلي غير رجعة بحلوه ومره، من خلال ذكريات جميلة وصادقة. كما تلقي المذكرات التي اعتمد فيها بشكل أساسي علي رسائل والديه، الضوء علي خلفيات الصراع العربي الإسرائيلي، من وجهة نظر عيني طفل ثم شاب أمريكي، فقبل أسابيع من إندلاع حرب السويس أو العداون الثلاثي علي مصر في 1956 انتقل بيرد إلي القدس، وهو ابن الأربع سنوات، ليعيش عن قرب كل يوم وهو في طريقه إلي المدرسة الإنجيلية تجربة سماع أجراس الكنائس ومؤذني المساجد في وقت واحد، ويشاهد عربات الحمير والجمال تزاحم الناس في الشوراع الفلسطينية الضيقة، كان مدفوعا لاجتياز أو عبور بوابة مندلباوم، وعيون الحراسة لجنود مسلحين يأمنون الحدود الفاصلة بين القدسالغربية التي تسيطر عليها إسرائيل، وبين القدسالشرقية التي تخضع للعرب، وهكذا أيضا كانت حياة كاي بيرد كما يحكي، مجزأة إلي قسمين. الكتاب لمؤلفه المقيم حاليا في نيبال، لا غني عنه في الأدبيات التي تتناول تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وإضافة إلي ذلك هو يتعاطف مع حق تقرير المصير للفلسطينيين، ومع زوجته ابنة اثنين من الناجين من محرقة الهولوكوست، كتب ذلك بمنطق طفل مارس عمليا كيف نقضي حياة النشأة والطفولة الأولي بين ثقافات مختلفة، وكتب في نهاية مذكراته: "لقد نشأت علي الإحباط من فكرة أن يتقبل العرب والإسرائيليون بعضهم كجيران، لأن كل واحد ينظر إلي الماضي المحمل بدماء ضحايا الجانبين".