من يظن أن في الإمكان وضع حد لعملية إعادة رسم خريطة المنطقة، يرتكب علي الأرجح خطأ كبيرا في تقييمه للأوضاع الإقليمية. تكفي نظرة إلي ما يشهده العراق للتأكد من ذلك. ومن لا تزال لديه شكوك من أي نوع كان في أن الشرق الأوسط في مرحلة مخاض، يستطيع التمعن في الوضع السوداني حيث تبدو الانتخابات الأخيرة خطوة علي طريق انفصال الجنوب لا أكثر. يبدو قيام دولة مستقلة في جنوب السودان وكأنه قدر. إنها دولة لا تمتلك حدا من أدني مقومات الحياة، أي أنها دولة فاشلة سلفا. وستكون لقيامها، في ضوء الاستفتاء المقرر مطلع السنة 2011 انعكاسات علي الكيان السوداني ككل... بل علي كل المنطقة القريبة من السودان والمحيطة به أيضا. يعتبر العراق والسودان مثلين صارخين علي التحولات التي تشهدها المنطقة. شكل العراق بحدوده الراهنة عنصر توازن بين العالم العربي من جهة وإيران من جهة أخري. كانت الحدود بين العراق وإيران "حدودا تاريخية بين حضارتين كبيرتين" هما الحضارة العربية والحضارة الفارسية العريقة. هذا الكلام للرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الذي كان يتحدث في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية عن الأسباب التي يجب أن تدفع المجتمع الدولي إلي المحافظة علي الحدود بين البلدين "كي لا يهتز التوازن الإقليمي". التوازن الإقليمي اهتز بعد الاجتياح الأمريكي للعراق. صحيح أن هناك "عملية ديمقراطية" في البلد وأن الانتخابات التي جرت في السابع من مارس الماضي كانت دليلا علي وجود حيوية لدي المجتمع العراقي، لكن الصحيح أيضا أن هذه الانتخابات كشفت أمرين في غاية الخطورة. يتمثل الأمر الأول في مدي النفوذ الخارجي في العراق. بدا هذا النفوذ كبيرا إلي درجة أن لا حكومة جديدة في العراق، أقله إلي الآن، وأن رئيس الكتلة الفائزة في الانتخابات عاجز، لأسباب خارجية، عن تشكيل حكومة أو حتي عن تولي منصب رئيس الوزراء حسب ما ينص عليه القانون. أما الأمر الخطير الآخر، فهو أن الانتخابات كشفت أن الأولوية لدي الأحزاب الكبيرة ليست للاندماج الوطني بمقدار ما أنها لتكريس الانقسام بين العراقيين علي أساس مذهبي كي يطغي الانتماء إلي المذهب أو إلي قومية معينة علي كل ما عدا ذلك. بكلام أوضح، شكلت الانتخابات خطوة علي طريق وضع العراق في طريق المجهول بدل أن تكون خطوة علي طريق استعادة البلد دوره في عملية المحافظة علي التوازن الإقليمي تمهيدا للانتقال إلي مرحلة استثمار خيرات البلد في تنمية المجتمع واستعادة العراق وضعه الطبيعي كدولة متقدمة تستخدم ثرواتها في تطوير الإنسان العراقي، أي المواطن العادي. بات السؤال المطروح: أي عراق بعد الانتخابات؟ هل يبقي البلد موحدا؟ من يمتلك الكلمة الفصل في شأن كل ما له علاقة بالحياة السياسية في البلد بما في ذلك تشكيل حكومة؟ هل هناك مستقبل للديمقراطية في العراق... أم لا مكان سوي للغرائز المذهبية التي تحول دون تمكين الفائز في الانتخابات من تشكيل حكومة تعمل من أجل تحقيق الانصهار الوطني؟ ما ينطبق علي العراق ينطبق إلي حد ما علي السودان. حصلت عملية انتخابية في كل من البلدين. كل ما يمكن قوله بعد الانتخابات العراقية وبعد الانتخابات السودانية هو ماذا ستكون عليه خريطة هذين البلدين المهمين في المستقبل القريب؟ الفارق أن صورة السودان تبدو أكثر وضوحا، خصوصا أن هناك نوعا من التفاهم علي القبول بنتيجة الاستفتاء التي تبدو منذ الآن معروفة إلي حد كبير. الرئيس عمر حسن البشير نفسه أكد غير مرة أنه سيكون أول من يعترف بنتيجة الاستفتاء ويقبل بها. هناك وعي في السودان لأهمية تفادي العودة إلي الحرب الأهلية، علما أن ليس ما يضمن انتهاء الخلافات بين الشمال والجنوب مجرد حصول الانفصال. كذلك ليس ما يضمن إيجاد حل قريب في دارفور أو وضع حد لطموحات ولايات أخري، بينها النيل الأزرق وكردفان، قد تكون لها طموحات خاصة بها في إطار السودان الجديد. ولكن يبقي الخوف الكبير من نتائج استمرار المأزق السياسي في العراق. أن استمراره سيشجع من دون شك علي عودة العنف والتطرف. وما يمكن أن يكون أخطر من ذلك، أن العنف والتطرف سيشرعان الأبواب أمام مزيد من التدخلات الأجنبية ويدفعان في اتجاه بحث المذاهب والطوائف والقوميات عن حماية خارجية مصدرها هذا الطرف الإقليمي أو الدولي أو ذاك... هناك بكل بساطة محاولة لإعادة تشكيل المنطقة. هذا ما تحدث عنه صراحة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول قبيل بدء الحرب الأمريكية علي العراق. تركت تلك الحرب تداعيات علي كل المنطقة المحيطة بالعراق، نظرا إلي أن هذا البلد كان أحد الأعمدة الأساسية للنظام الإقليمي. وحتي إذا اعتبرنا أن لا علاقة بين ما يدور في السودان وبين ما يشهده العراق، إلاّ أن صورة العالم العربي التي عرفناها طوال ما يزيد علي ستة عقود آخذة في التغير. وهذا ما يفسّر إلي حد كبير السياسة العدوانية لإسرائيل علي كل المستويات وعدم رغبتها في أي تسوية معقولة ومقبولة مع الجانب الفلسطيني ومع العرب عموما. ليس ما يدفع إسرائيل إلي رسم حدودها مع الدولة الفلسطينية ما دام الاتجاه في المنطقة إلي إعادة النظر في حدود الدول... وما دامت هناك إدارة أمريكية علي استعداد لقول كلام كبير وجميل من نوع اعتبار التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين "مصلحة حيوية" للولايات المتحدة، ولكن من دون الانتقال من الكلام إلي الأفعال.