هناك أناس يؤثرون فيمن حولهم بطريقة ملحوظة فلا تموت صورهم ولا أصواتهم مهما طال الزمن وابتعدوا عمن قد أثروا فيهم؛ والدكتورة محاسن من هؤلاء الذين قد تركوا بصمة علي أجيال وأجيال من الذين تخرجوا علي يديها في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الألسن جامعة عين شمس. صحيح أن الدكتورة محاسن قد تركت عالمنا منذ حوالي شهر ولكنها لم ولن تترك ذاكرة الكثيرين بصوتها الرقيق القوي في محاضرات مادة الدراما عندما كانت تقرأ المسرحيات الكلاسيكية باللغة الإنجليزية بنطق رائع وباستمتاع فائض ينهمر منها فيغمر كل الطلاب الجالسين في المدرج يستمعون ويستمتعون بأحداث المسرحية لا كأنهم يقرأونها مع الدكتورة محاسن بل كأنهم جالسون في مدرج مسرح انجليزي يشاهدون المسرحية علي الخشبة. وأذكر أن عديدا من الطلاب كانوا يتركون متابعة القراءة ويستمعون ويشاهدون أداء الدكتورة محاسن لدرجة أنني عندما كنت طالبة لم أكن أكتب التعليقات التي من المفروض أن نذاكرها للامتحان لئلا أفقد الاستمتاع بالمحاضرة. ولم يكن أثر الدكتورة محاسن يقتصر علي جيلنا وحده بل كان من قبلنا وبقي وامتد لأجيال كثيرة جاءت بعدنا لتجلس في المحاضرات الممتعة كما جلسنا وتستمتع كما استمتعنا وتتعلم كما تعلمنا وتتذكر الدكتورة محاسن كما نتذكرها كأستاذة جامعية قامت بتدريس هؤلاء وأولئك، وكسيدة قدوة في علمها وأخلاقها وشخصيتها المتميزة وحضورها الملحوظ مع هدوء متميز، ورأيها المسموع مع احترام لكل من حولها، وحنانها الأمومي مع حزم وانضباط. غالبا كل ما ذكرته عن الدكتورة محاسن انطباعات عامة لا يختلف عليها من زملائها وطلابها اثنان. ولكن إعجابي الشخصي بالدكتورة محاسن يعود لصفة أحترمها كثيرا وقد تعلمتها جيدا. وأذكر أنني اكتشفت تلك الصفة حين كانت تلقي علينا إحدي المحاضرات في المسرحية الشكسبيرية (أنتوني وكليوباترا) وإذا بإحدي الطالبات تعترض علي أخلاقيات البطل والبطلة وتعترض علي تقديم شكسبير لشخصيتيهما علي أنهما ضحيتان. عندئذ تركت الدكتورة محاسن الكتاب ونظرت لنا جميعا موضحة معني النسبية الأخلاقية عبر الزمان والمكان بمصطلحات بسيطة تحث علي تقبل الآخر والتسامح. وأعترف وبكل صراحة أنني كنت أقبل علي محاضرات الدكتورة محاسن لا لأكتب المعلومات وأذاكرها، ولا حتي للمعرفة الأدبية، بل كان هدفي الأساسي من حضور المحاضرة هو الاستمتاع بالدكتورة محاسن كأستاذة وكإنسانة وكقدوة في الحياة وفي العلم وفي التعليم. لقد تركتنا الدكتورة محاسن ولكنها تركت لنا إرثا لا من المعلومات والدراسات وطرق التدريس فحسب، بل كنزا من الصفات الشخصية التي قلما نجدها مجتمعة في شخص واحد. فقد كانت سيدة أنيقة المظهر والجوهر، مبتسمة الوجه والفؤاد، رقيقة اللسان والوجدان. وكان لها من الذهن الصفاء، ومن العقل الذكاء، ومن السريرة النقاء. وكان لها كثير من الحب في قلوب الطلاب والزملاء علي حد سواء. الأستاذة الدكتورة محاسن ربما قد غابت عن الجدران ولكنها أبدا لن تغيب عن الوجدان.