لا شك أن الدولة المصرية مازالت تحتفظ بهويتها كدولة مدنية وليست دولة دينية وهي عبر أجهزتها المختصة إنما تدافع عن هذا المعني وتعمل علي التصدي لمن قد يحاول النيل من هذا الشكل فقط ومن دون المحتوي. والمسألة تفرق إذا ما تم الزج بالدولة في معارك سياسية صغيرة وغير لائقة ومنها ما حملته الأنباء عن استعانة السلطات ببعض الكوادر المنتمية للجناح الديني السلفي لإفساد مؤتمر سياسي بالفيوم بحجة أنه تحت رئاسة جورج إسحاق، والحدث مر علينا- ولكن ليس مرور الكرام.. ذلك أن التسليم بما حدث إنما يعتبر من قبيل العبث بهذه الهوية إذ يستدرجنا إلي استعراض جميع أوجه تسلل هذه الثقافة والأنماط السلوكية الوافدة إلينا من الخليج والتي تتعامل بشكل مباشر مع شكل التدين وطقوسه دون حقيقته ومحتواه وذلك في إطار عملية ابتذال سياسي حقير لا تتبناه أو تتفاعل معه سوي الأنظمة العبثية عديمة الهوية والصلاحية. وكأن مؤدي هذا المنطق أن تتقاسم الدولة السلطة فتمارس أجهزتها المختصة سلطة حماية القانون والنظام بينما تترك أمر الوصاية علي سلوك الناس وأنماط سلوكهم وممارساتهم الدينية والحياتية لأرباب الأجنحة الدينية المختلفة هذا الكلام ليس ضربًا من الخيال بل إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن الدولة عبر مؤسساتها النظامية غير قادرة علي التصدي لهذه الأنماط التي تتخفي وراء هذه الممارسات الدينية المنتسبة شكلا بالطبع للدين الإسلامي بل إن مسئولية التصدي هذه واجب علينا جميعا شريطة أن يتبناها النخبة التي تقع عليها مسئولية النهوض بالدولة والوطن. وبالترتيب علي ما أسلفناه فالمواطن العادي قد يواجه موقفًا في منتهي العشوائية مقتضاه أن يتعرض لعملية تفتيش ذاتية حال استقلاله لسيارة ميكروباص بأحد الأكمنة ويتم ذلك بمعرفة أحد أفراد الشرطة وهو إجراء تباشره الدولة ثم يعود إلي محل سكنه فيفاجئه أحد الكوادر المحلية لأرباب هذه الجماعات الدينية ومن بين أعضاء الحكومة التي تشكلت الآن فعليا بجميع المناطق وتتخذ من المسجد القائم أو الزاوية مقرا لها ليفرض عليه وصايته فيما يتعلق بسلوكه الشخصي أو عاداته أو معاملاته أو حتي أهل بيته نافذا لذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بهذا المقتضي المواطن ذاته هو محور الارتكاز فهناك الدولة النظامية تفتشه ماديا بينما الدولة الافتراضية تفتشه في ضميره وسرائره- وهو واقع هزلي نعيشه كهذه الصورة تماما.. ومهما قيل عن نبل المقاصد وأسانيد الاستدلالات التي يسوقها كل طرف من تبرير منطقه فالنتائج غير مقبولة إذ إننا نجد أنفسنا وقد حاصرتنا هذه الدوائر الساذجة المفرطة في الشكليات والغيبيات والغث والتافه من الأمور لتغرق سفينة الوطن في غفلة منا.. ويبقي لنا البحث في مسائل الحلال والحرام والشيخ الفلاني هل نأخذ بفتواه في كذا أم نطرحه أرضا.. إلي آخره. وبالطبع نحن لا نتكلم عن مطلق بل عن معني وسلوك وممارسة قد يكون بعضها مدفوعا بلا شك بحسن النوايا ونبل المقاصد فضلا عن آلية عملية للتعامل والتصدي للمشكلات الفردية المختلفة التي ازدحم بها الواقع كأعراض لحيثيات غياب الدولة وعشوائيتها ومع فهم هذه المشكلات والتعامل معها ما يفضي بهذه الجماعات إلي الحلول محل الدولة فينصرف عنها هذا المواطن الاتكالي الغارق في فرديته حتي أذنيه فيصير فردا في قطيع يحكمه ويتحكم فيه كادر من كوادر هذه الجماعات الدينية عبر عملية استقطاب واسعة جدا أصبحت تهيمن علي حركة مجتمع بالكامل، ولتأكيد هذا المعني انظروا كيف تحاصرنا هذه الأنماط وهذه السلوكيات عبر الجلباب والعمامة والنقاب والجانب الذي يهمنا في هذه الأنماط أن ثقافتها تتحدد عبر منطلقات ضيقة طاردة لسواها لا تقبل بوجود الآخر- أي آخر- ومن هنا يصير محتما علينا اللعب في الجوهر.. فالدين- أي دين- مسألة وجدانية نفسية قوامها بالطبع ضمير الإنسان- كما أن الصلاة أي صلاة هي في حقيقتها ومعناها ومضمونها بمثابة دعاء لله ومع أن كل دين له صلاته الخاصة به إلا أنها جميعا تؤدي لله الواحد الأحد. هكذا بكل بساطة.. أو هكذا ينبغي.. هي مسألة وجدانية لا تلتزم في حقيقتها بشكل أو طقوس هذا ما يقصده الله تعالي في خطابه الإلهي عبر رسله وكتبه السماوية وإلا ما تفسيرنا لما فعله السودانيون حين زارتهم أم كلثوم لإحياء بعض الحفلات بعد هزيمة يونيه وفي إطار مساهمتها في المجهود الحربي وقد امتلأت قلوبهم بالفرح والانسجام والتسامي الوجداني والصوفي الذي مسته بغنائها وأخرجت ما في هذه القلوب من مشاعر كامنة وعميقة دفعتهم إلي التعبير عن هذه المشاعر والأحاسيس بطريقة غريبة ومبتكرة هي أن قاموا بالصلاة داخل المسرح أثناء غنائها. إنه لمن واجبنا جميعًا أن ندافع بكل كياننا عن هويتنا المدنية علينا ألا نترك مصر لتقع فريسة سهلة وفي غفلة منا ليقتنصها أرباب هذا الفكر الديني المتأسلم.. فمصر وطن يعيش فينا مسلمين ومسيحيين.. مصر المدنية هي التي سمحت أن يرشح الوفد القبطي ويصا واصف في دائرة المطرية دقهلية لينجح في دائرة ليس بها من أقباط سواه.. هي التي سمحت له بتولي رئاسة مجلس النواب وبادر بتحطيم سلاسله بعد أن أصدر الملك فؤاد قرارا بتعطيله لمدة شهر فما كان منه إلا أن اقتحم الحصار وحطم السلاسل وفتح أبواب البرلمان.. الدولة المدنية هي التي جعلت مكرم باشا عبيد يتحدي البوليس السياسي ليصير وحده في جنازة الشيخ حسن البنا. هل تضاءلت مصر إلي هذا الحد.. هل هان شأن النخبة والمثقفين فيها إلي الحد الذي يجعلنا نتخاذل في مواجهة حادث نجع حمادي البغيض.. لماذا لا تنعقد المحاكمات الشعبية المماثلة لمحاكمات الاحتكار والفساد وغيرها؟ لماذا لا تقود النخبة والصفوة مبادرات حقيقية بشأن الإصلاح السياسي لنطالب بها أيا كان شخص مرشح الرئاسة سواء أكان البرادعي أو جمال أو غيره.. أليست هناك مطالب موضوعية طرحها دعاة الإصلاح.. ما المانع أن نفرضها علي مرشح الرئاسة وأيا كان اسمه أو صفته. إنني أكاد أفقد صوابي حين استمع لبعض ادعياء الخطاب الديني المعاصر أو أسبابه حين يتناول حديثه أحد الاكتشافات العلمية متهكما بما توصل إليه العلماء علي سند من أن القرآن قد أشار لكذا وكذا وبالتالي فلا فائدة ولا جدوي لبحثكم ولا علمكم ولا نتائجكم.. أي منطق هذا وهل كان القرآن كتابا للكيمياء أو الرياضة أو الجيولوجيا؟.. إذن هي ثقافة العجز والخرافة.. حين كنا صغارا توفي والد زميلي وكنت أراه باكيا ولما بادرت بمشاركته نهرني ورفض ذلك بحجة أن الأحقية في البكاء إنما تقتصر عليه وحده لأن والده هو الذي مات.. ألا يذكركم هذا الموقف بطبيعة ما آلت إليه العلاقة الآن بين المسلمين والمسيحيين.. إنها الأحقية في البكاء الذي يختلف عليه كبارنا الآن.