في الركن يبدو وجه أمي ..لا أراه لأنه سكن الجوانح من سنين ..فالعين إن غفلت قليلا لا تري لكن من سكن الجوانح لا يغيب وإن تواري مثل كل الغائبين.. ما من امرأة سواها وهبت دون سؤال عن المقابل .. بفطرتها كانت ولازالت أمي مدرستي الأولي .. كل منا مدرسته الأولي التي أثرت حياته بالحب وأثرت فيها بالصدق تلك المرأة في حياة يوسف القعيد هي مبروكة..أم الأديب المصري الذي عبر عن أجواء القري وما يتصل بها من قضايا . وعنها يحدثنا يوسف القعيد فيقول.. أمي كانت من الضهرية مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة هي سيدة قروية بسيطة لا تجيد القراءة والكتابة ولكنها كانت حكاءة أي تجيد فن الحكي ومنها استلهمت الجذور الأولي لبعض رواياتي المهمة والتي سمعتها منها في شكل حكايات تقصها علي عندما كنت مجندا بالجيش فما عن أصل القرية واخطو خطواتي الولي داخل منزلنا حتي تلقي علي سمعي موجزاً بأخبار القرية ثم تروي لي بالتفصيل ماوقع من احداث فترة غيابي عنها. تلك الأخبار المتناثرة والحكايات كانت نواة لأهم ما كتبت مثل رواية البيات الشتوي والحرب في بر مصر .. كما نبهتني إلي قوة المثل الشعبي وتأثيره فقد كان لديها مايشبه الموسوعة للأمثال الشعبية تلخص بها الحكم والمواقف التي قابلتها أو تعرض لها السلف في السابق حتي صار لها قدسية أشبه بالنصوص الدينية لدي العامة. ويضيف القعيد أنها كانت علي سبيل المثال تصف من يملك الطموح الضخم دون دعم أو سند أو وعي بقيمة العمل بأنه" عايز يطلع السما من غير سلالم " كذلك تردد هي المية تطلع في العالي ولا العين تعلي علي الحاجب" وكانت تلك المثال بالنسبة لي محبطة وحاولت كثيرا شرح وتفسير سبب إطلاق مثل هذه الأمثال أنها ظهرت في عهد المماليك والعثمانيين لإخماد قوي الشعب حتي لا يغامر بالثورة علي الفساد وأن عباس ابن فرناس لو كان استسلم لمقولاتها تلك ما فكر في ابتكار وسيلة للطيران ولكن ما من مخلوق كان ليغير إيمانها بقيمة المثل الشعبي لأنه يعكس تجربة السلف.. كذلك مامن من مخلوق يمكن أن ينكر فضلها عليه حتي لو آمنت بمعتقدات مغلوطة " فأمي هي أمي أنا جزء منها تسكن بداخلي دوما وأبدا"