تحت شعار "الكتاب المقدس كلمة الله لكل زمان" انعقد اللقاء اللاهوتي في دورته الثانية برعاية بطريركية الإسكندرية وسائر إفريقيا، في كنيسة رؤساء الملائكة للروم الأرثوذكس. حيث تم تناول مسألة كلمة الله ولكن بإطلالة مسكونية، سواء علي المستوي المسيحي المسيحي، أو المسيحي الإسلامي. وذلك في إطار المبادرة التي أطلقتها بطريركية الروم الأرثوذكس من أجل تفعيل الخطاب المستنير الذي طالب به الرئيس مبارك. لقد كان المتكلمون صفوة من أساتذة اللاهوت من اليونان ولبنان، كما كان من ضمن المتكلمين السفير البابوي المونسينيور مايكل فيتزجيرالد لما له من باع طويل في الحوار المسيحي الإسلامي. كما ضم الحوار أيضاً كلمة سيادة وزير الإعلام اللبناني الدكتور طارق متري الذي سافر فجأة لظروف في بلده تاركاً ورقته ليقرأها الأرشمندريت اسحق بركات رئيس دير سيدة البلمند البطريركي ويقدمها سفير لبنان في مصر الدكتور خالد زيادة، مع حضور فضيلة الشيخ علي عبدالباقي شحاتة أمين مجمع البحوث الإسلامية ووفد من الأزهر الشريف بتفويض من فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد سيد الطنطاوي. المقاربة المسيحية المسيحية كانت فعاليات اليوم الأول تكمن في تقديم دور الكتاب المقدس في حياة المؤمن، ومنه إلي المجتمع في ضوء هوية المسيح، التي كانت نقطة بحث المؤتمر الأول الذي انعقد في يونيو الماضي. وقد كانت ورقة الأب بولس فغالي الأستاذ الكبير في الكتاب المقدس مميزة جداً، كما طرح الدكتور فادي جورجي استاذ العقائد طرحاً غاية في الأهمية وهي كيفية تقديم المسيح للإنسان اليوم. السؤال الذي يخرِج المسألة من حيزها العقائدي الضيق إلي رحابة الدور الفاعل في حياة الناس. إلا أن فعاليات الحوار المسكوني بدأت في اليوم الثاني مع طرح مسألة كيفية التواصل الأرثوذكسي الكاثوليكي وسبله، ولعل دور الكتاب المقدس كان هو المادة التي طُرحت للبحث. فجاءت ورقة الأستاذة إيليني كاسيلوري أستاذة الكتاب المقدس في أكاديمية فولوس باليونان، والمونسينيور فيتزجيرالد السفير البابوي. لقد كان سبقاً في مصر لم يحدث من قبل أن يجلس أورثوذكسي وكاثوليكي في قاعة الكنيسة لطرح تعليم لاهوتي وليس مجرد تصريحات دبلوماسية، وكانت النتيجة إيجابية وقف الحضور فيها علي مدي التقارب الأرثوذكسي الكاثوليكي علي أرض الواقع، وكيف يمكن أن يجمعهما الكتاب المقدس في التعليم والقيم. لقد كان ذلك اليوم بمثابة احتفالية ارثوذكسية كاثوليكية كبري ضمت لفيفًا من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية إلي جانب إكليروس الكنيسة الأرثوذكسية في صورة رائعة هي الجديدة من نوعها في الساحة المسيحية في مصر. السفير البابوي والأستاذة إيليني الحوار المسيحي الإسلامي لم يكن تخصيص اليوم الثالث لطرح التقارب المسيحي الإسلامي علي مائدة الحوار محض صدفة، أو جزء من سلسلة مجاملات دبلوماسية متبادلة، بل عكس ذلك، وهو الإنفتاح علي الآخر والقدرة علي استيعاب وجوده في داخل دار العبادة الذي يشكل قمة خصوصية صاحب الدين. بحسب قوله، بلغ الشيخ علي عبدالباقي شحاتة قمة سروره واعتبر وجود "شيخ معمم يتكلم في هذا المكان" دليلاً علي جوهر الوحدة الوطنية. فتحقيق الوحدة الوطنية والمواطنة لا يمكن أن ينفصل عن واقع الطبيعة المصرية المتدينة، ولا يمكن أن يأتي إلا من خلال دور المؤسسة الدينية الذي يجب أن يتعامل مع هذه القضية بشكل أكثر شجاعة واهتمامًا. ولعل ذلك قد جاء في إطار استجابة المؤسسة الدينية لمطالبة الرئيس مبارك التي أطلقها في خطابه الحاسم في عيد الشرطة بخصوص ضرورة توجيه خطاب ديني مستنير من الأزهر والكنيسة. وبالفعل جاءت مبادرة الكنيسة في هذا الصدد لتفعيل دورها ودفع عجلة نشر ثقافة المواطنة من داخل المؤسسة الدينية الفاعلة بقوة في الحياة الإجتماعية في مصر. وإدراكاً لهذا الموضوع، كانت استجابة فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد سيد الطنطاوي وترحيبه بالفكرة أمراً يجب الإشارة إليه بقوة، وقد أوفد عنه وفداً من علماء الأزهر، يتقدمهم فضيلة الشيخ علي عبد الباقي شحاتة الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية. ورقة الدكتور طارق متري برغم اعتذاره عن الحضور لظروف خاصة، إلا أن وزير الإعلام اللبناني وأستاذ الأديان الدكتور طارق متري حرص علي إيصال ورقته للمؤتمر، والتي قدمها سفير لبنان في مصر. وقد ركز متري علي ثلاثة أبعاد أساسية هي ضرورة الحوار، أبعاده وكيفية توجيهه. فقد أوضح أنه "قد تعاظم الاهتمام بالحوار نتيجة القلق من الظواهر الجديدة أو المتجددة والموسومة بالعنف الطائفي والإثني والإرهاب والتخويف والإكراه وتشويه الصورة والسمعة والإعتداء علي الكرامات. ولم يعد توسيع آفاق التفاهم شأن نخبة مثقفة دون سواها بل شأن الجميع. ولا هو قضية من قضايا الزمن الطويل بل حاجة لا تحتمل الإنتظار". لعل الحاجة باتت ماسة بالفعل في ضوء الإضطرابات التي طالت الواقع الإجتماعي المصري والذي يحتاج بشكل جوهري لانتشار ثقافة الحوار، فمعرفة "الآخر" واحترامه هو المخرج، أما العزلة فسبيلها زيادة تكريس العنف والكراهية. في هذا قال وزير الإعلام: "إن خبرات كثيرة تعلمنا أن محك صدقية الحوار وفاعليته وقدرته علي تمكين الناس، أيام الشدة و التعبئة الأيديولوجية والتهويل بالإقتتال أو الإعداد له، علي بناء جسور بديلة من التي يهدمها الخوف والتخويف..". أما كيفية الحوار فقد طرح وزير الإعلام اللبناني طرحاً جريئاً يوضح فيه أن" قصد الحوار بين المؤمنين ليس في إقناع الواحد الآخر بصحة ديانته ابتغاء "هدايته"... بل إنه ارتضاء أن يسائل الشريك شريكه في احترام متبادل للقناعات وقبول، في الوقت نفسه، باحتمال الخطأ في ما يذهب كلّ إليه... ويتطلب إقراراً بنسبية القول البشري، بما فيه اللاهوتي الذي قد يشوّه، هنا وثمة، الكلام الذي يؤمن الناس به إلهي المصدر."كما أن" احترام آخرية الآخر" هو أولي شروط الحوار بلا شك. إلا أن حوار المؤمنين - كما أشار - ينظر له المؤمنون بطريقتين مختلفتين، فهناك فريق "لا يري مسوغاً كافياً و لا حاجة تدعوه للإهتمام بالبعد الروحي والديني لكل مبحث مسيحي - إسلامي. وقد يراه عجزاً عن معالجة القضايا الساخنة أو هروباً منها. وقد يري أن التصدي لمشكلات المجتمع والسياسة محك الإرادات الطيبة، ولا يتفهم الدعوة إلي الحوار في أمور الدين... ويصل به الأمر إلي حد التشكيك في ما يحسب إقحاماً للدين في مجال ليس في الأصل مجاله، إذ أن شئون العقيدة الدينية ليس موضوع حوار". في المقابل " لا يطمئن نفرٌ قليل من أهل الإيمان إلي إمكانية استغراق الحوار في السياسة..." ولذلك يلخص الوزير متري قراءته ليقول أنه "يستدعي الحرص علي تقدم الحوار تعزيزَ القدري علي التمييز، وإن من غير فصل، بين الديني والسياسي. والتمييز هذا يبدأ بالإحجام عن تسييس الدين بشكل مصطنع أو تسخيره لإضفاء الشرعية الدينية علي المواقف السياسية". وإن رأي أن السياسة لا تنفصل عن الدين وإن اختلفت الطرق بين المسيحية والإسلام في هذه النقطة. كلمة الشيخ علي عبدالباقي شحاتة من المهم الإشارة لسعادة الشيخ عبدالباقي شحاتة أمين عام مجمع البحوث الإسلامي - وهو مكلف بشكل شخصي من فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد سيد الطنطاوي بالحضور- ووفد الأزهر بوجودهم في الكنيسة، وبحسب كلماته كيف وهو شيخٌ معمم يجلس في الكنيسة ويكلم الناس، وهذا دليل علي روح الوحدة الوطنية. طرح الشيخ عبدالباقي بُعداً هاماً للحوار، فهو يري أنه بما أن " الهدف من الحوار هو البحث عن القيم الأخلاقية والإنسانية المشتركة بين جميع الأديان السماوية" فإنه طرح المقاربة بين التعليم المسيحي بإلقائه الضوء علي نصوص للمسيح من انجيل متي - و رؤيتها المقابلة في النصوص التي تدعو للتسامح في النصوص القرآنية. مروراً بالعفو والمساواة، أشار الشيخ عبدالباقي إلي رؤية المواطنة في ضوء تلك النصوص. وهو الأمر الذي يشمل الناس أجمعين وليس فئة. معتبراً أن "الإختلاف سُنّة كونية". ثم انتقل في عرضه للنصوص التي تشرح مفهوم العدل في الإسلام، وقد ختم بكلمته" وهكذا تري أن الإسلام بهذه المساواة وهذا العدل بين المسلمين وغير المسلمين، يلفت النظر بل يوجب علي المسلمين حسن التعامل والإعتراف بجميع الحقوق والواجبات لغير المسلمين مثل ما يوجب المسلمون أنفسهم، فبالعدل والمساواة ينتشر السلام بين المسلمين بعضهم البعض وبين المسلمين وغير المسلمين". انطلاقاً من هذه الأجواء المستنيرة، بدأت الأسئلة تُرسل إلي المتكلمين، وقد أوضح فضيلة الشيخ مفهوم الأزهر لنداء الرئيس مبارك للمؤسسة الدينية، مشيراً إلي اهتمام الأزهر اليوم بمواجهة ومحاربة الفكر التحريضي لبعض الشيوخ في الجوامع من مثيري الفتنة. موضحاً أن هذا دخيل وليس من أصل التعليم في مؤسسة الأزهر. كما أنه قد طُرح عليه سؤال هام وهو هل يجوز للمسلم التبرع لبناء كنيسة، فكانت إجابته مثار إعجاب كبير، موضحاً كيف أن المسيحيين كانوا يتبرعون بالأسمنت والحديد لبناء جوامع، فما المانع من تبرع المسلم لبناء كنيسة، "فكلها دور تُقدّم فيها العبادة لله". كما أنه سئل عن إمكانية تفعيل دور الأزهر واتخاذ إجراءات حاسمة ضد الخطاب التحريضي، فأوضح أنه سيتحرك فعلاً انطلاقاً من هذه الجلسة، مطالباً من مركزه المؤسسة الدينية باتخاذ نقاط علي أرض الواقع فعلاً. كما أنه من المهم الإشارة إلي قوله بأنه سعيد بتلك المبادرة سعادةً ظهرت بجلاءٍ حتي في صوته وكلامه حتي أنه طالب بأن تتكرر المناسبة وأن تتم بالتبادل. وهذه إحدي الإيجابيات التي خرج بها المؤتمر.