تعرفت علي فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور المرحوم محمد سيد طنطاوي في "معركة" من معاركه الشهيرة والرائدة.. حين كان مفتيًا للديار المصرية.. وكان الموضوع وقتها هو "فوائد شهادات الاستثمار".. وفتواه الشهيرة بخصوصها. قابلت فضيلة الشيخ، مع أحد الزملاء في مكتبه المتواضع جدًا، في مبني مصلحة الخبراء بوزارة العدل، بميدان العباسية، إذ يتبع هذا المنصب وزير العدل، وقبل أن يتمكن فيما بعد من تدشين مبني مستقل للإفتاء.. في منطقة الدراسة.. أصبح منارة.. وبعده وحين أصبح شيخاً للأزهر بني مبني جديداً للمشيخة.. لا يقل بالطبع في مكانته ووقاره عن مبني الإفتاء. خاض الشيخ هذه المعركة الأولي بكل ثقة، مواجهاً ضغوطاً مهولة، إذ إنه لم يقف فقط بفتواه المؤيدة لفوائد شهادات الاستثمار ضد التطرف.. ولكنه كذلك كان يواجه المصالح المهولة المرتبطة بالمصارف التي تقول إنها إسلامية.. والتي وجدت في فتواه ما يؤدي إلي تعريض مستقبلها للخطر.. ومن ثم كان أن تعرض لهجوم مهول.. تصدي له.. وكان أن انطلقت في اتجاه صحفي تالٍ بأن أعددت في مجلة "روزاليوسف" حملة علي تلك المصارف وحقيقة ما تقوم به بنكياً. وبالطبع كانت أولي معارضات الشيخ من بين المشايخ.. فبعضهم كانت له علاقات وطيدة مع تلك المصارف.. وكان أحد المفتين المصريين السابقين علي فضيلة الإمام الراحل رئيسًا لهيئة شرعية لأحد تلك البنوك.. وقاد بدوره الحملة العلنية علي فضيلة الشيخ طنطاوي.. وكان أن ساندته "روزاليوسف". ولا أستطيع، أو لا أملك الجرأة لكي أقول إن هذا قد دشن بيني وبين فضيلة الإمام الراحل علاقة وطيدة.. بل علي العكس كنت التقي فضيلته من حين إلي آخر.. فيبدو كما لو أنه لا يذكرني.. وأظنه نسي أنه صاحب فضل كبير علي.. وقبل أيام قابلته في الاحتفال بالعيد القومي للكويت بالقاهرة.. ولكنه في هذه المرة كان يعرفني بطريقة أفضل.. لا سيما بعد أن ذهب إليه مجلس تحرير مجلة "روزاليوسف" بكل أعضائه في مقر مشيخة الأزهر.. حيث عبرنا بحوار صحفي علي هذه الطريقة عن دعمنا المعنوي له في معركته ضد النقاب.. الذي قال إنه عادة وليس عبادة.. ورأي فضيلته في ذلك موقف يجب تقديره. وأما الفضل الذي صنعه لي صاحب الفضيلة الراحل.. ولا يعرفه كثيرون.. فهو أنه حين صدر كتابي "التحليل النفسي للأنبياء" وتعرضت في نهاية التسعينيات لحملة مهولة من قوي التطرف.. قادتني إلي تحقيقات في نيابة الأزبكية.. ووقتها أدلي الشيخ بمقولة وأكثر من تصريح معناه أنه لا يجد في الكتاب ما يحمله له الآخرون من معانٍ ضد الدين.. وأدي ذلك إلي حفظ القضية التي كادت أن تغير حياتي.. وتعصف بها.. وقد قرأت في ذلك الموقف إنصافا من الأمام الراحل نعمة كبيرة من الله.. وعلي الرغم من إيمانية الكتاب.. وإخلاصه العقيدي.. إلا أنني قررت ألا أطبعه مرة أخري من وقتها.. وظللت أحتفظ لفضيلة الشيخ بهذا الفضل العظيم.. الذي من المؤكد أنه قد نساه تمامًا.. وبالطبع أنا لم أذكره بذلك في أي مناسبة. لقد اختلف الكثيرون معه.. وأظنه ينفرد من بين مشايخ الأزهر في العصر الحديث بهذا الجدل الموضوعي الذي كان يذهب إليه بكل جرأة.. فلم يخش هجومًا.. ولم يتراجع عن موقف.. وأصر علي توجهات بنائية تبناها.. وخاض من أجل التنوير الكثير من المعارك التي كان يدرك أنها سوف تفتح نيرانًا عديدة عليه. وصل الشيخ طنطاوي إلي موقع الإمام الأكبر في عصر صعب.. ألم به التطرف.. وضربته التوجهات الرجعية.. وأصبحت للتيارات العنيفة مواقعها ومصالحها وتنظيماتها.. في الفكر والثقافة والاقتصاد والسياسة.. زمن تعرضت فيه المؤسسة الدينية لأقسي حملات الهجوم بقصد سحب البساط من تحت أقدامها وإفقاد الناس الثقة فيها.. لكي تخلو الساحة لمؤسسة التطرف بكل أفكارها التي تضر الدين والمجتمع. ولم يكن يمر عام دون أن يبدأ الشيخ معركة من نوع جديد.. بحيث إذا ما جمعناها في منظومة لاكتشفنا أن له سياقاً واضح الملامح.. يقر به الجميع وإن اختلفوا معه.. هذا السياق هو مواجهة التطرف.. والفكر الرجعي.. والتفسير المسيء للدين ولا أعتقد أن فضيلة الإمام الراحل قد ترك مجالاً دون أن يدلي فيه برأي نوعي وفارق.. أثار بالطبع حفيظة التطرف.. وقض مضاجعه.. وعطل مصالحه.. فكان المتطرفون يشنون عليه حروباً لا نهاية لها. كان لفضيلته موقف واضح متكرر مؤيد لتنظيم الأسرة.. وكان له تراثه الممتد فيما يتعلق بمعاملات البنوك.. وكان له موقفه من النقاب.. وكانت له مواقفه من التطرف السياسي.. وكانت له مواقفه الخالدة من الوحدة الوطنية.. ومن حوار الأديان.. ومن إعلاء قيم التسامح.. ومن مصادرة الكتب.. وفوق كل هذا فإنه استطاع أن يبني توسعاً كبيراً في مؤسسة الأزهر.. وأن يشيد علاقات لا تنقطع مع المنابر الدينية الإسلامية في مختلف البلدان العربية والإسلامية.. فلم يكن في صدام معها.. وإنما تواصل حقيقي وإن اختلف مع مضمون أفكارها. كان شجاعاً.. وكان صعيدياً عنيداً بدون تصلب.. وكان يعمل باجتهاد.. يفوق حتي طاقة سنه وصحته.. وأذكر جيداً كيف انهمرت علينا المراجع التي استند إليها في موقفه من النقاب.. ولاحقنا بعشرات منها في مكتبه حين التقاه مجلس تحرير "روز اليوسف" مناقشا إياه في موضوع النقاب.. فلم يخجل من أن يقول إنه استند إلي مراجع وهو المرجع.. ولم يتوان فيما بعد عن موقفه الموثوق وأصر علي مواصلته.. واحتشد له ومعه رؤوس الدين في مصر.. فضيلة الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية والدكتور حمدي زقزوق وزير الأوقاف. رحم الله فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر.. وقد مات في واحدة من لحظات تواصله مع الدول العربية الشقيقة.. ونتمني من الله أن يتقبله في جناته.. وأن يلهم خلفه بإذن الله القدرة علي عشرات من التحديات التي تفرض نفسها عليه.