تضعنا سامية سراج الدين في روايتها "بيت العائلة" أمام مأزق محير. تبدو الرواية لأول وهلة دفاعا مشروعا عن حق ومنطق خاص بفئة خاصة تنتمي إليها المؤلفة، وهي فئة الباشاوات التي عاشت في مصر وكونت جزءًا من نسيجها الاجتماعي، بل أثرت أيضًا في مسار تاريخها السياسي لفترة ليست قصيرة. لكن ثمة يقين آخر أقوي يتسلل إلي القارئ المحايد والموضوعي، بأن المؤلفة مارست عبر روايتها تلك حنينا عقلانيا لزمن الباشاوات، تكتب سامية علي لسان راويتها "عندما أنظر إلي الماضي أدرك أن التغيير في حياتي تم دائما بصورة مفاجئة وكنت دوما أظنه سيكون مؤقتا"، وعليه يستمد الحنين إلي بيت العائلة وزمن العائلة شرعيته من التدفق السردي الدافئ للأحداث والذكريات الذي اعتمدته الراوية، وكذلك المراوغة من خلال إخفاء الأسماء الحقيقية لكل الشخصيات، ف"سراج الدين" تصبح "عائلة سيف الإسلام" وربما سامية نفسها تتحول إلي "جي جي"، ماعدا شخصيتين: عبد الناصر الذي يظهر باسمه وأوصافه، وزعيم الوفد المشار إليه بطول الرواية بلفظة واحدة هي "الباشا"، لكن أيا من الحنين أو الدفاع المشروعين حتي أدبيا، يتبدي عندما نقرأ عن استياء البطلة من بعض التقاليد المصرية، هنا مقطع يقول: " هكذا المصريون، في نفس الوقت الذي تتميز فيه علاقاتهم الشخصية بالود والتراحم فإن علاقاتهم بالمجتمع تتميز باللامبالاة"، بالرواية أجواء عن تدخل الناس في شئون الآخرين، وكيفية تدبير العائلات المصرية لأمور زواج وطلاق أبنائها وبناتها، ومواقف لتحكم الزوج في زوجته، والصورة المتدنية للشارع المصري والفقراء، من هنا تأتي الحيرة، سامية نفسها تقول عن بطلتها "جي جي" إنها حائرة مشوشة، مصرية وغير مصرية، فيما العنوان الأصلي للرواية في نسختها الإنجليزية "كايرو هاوس أو بيت القاهرة" يدعم تلك الشكوك، ويحيلنا في تخصيصه إلي تلك النظرة الاستعلائية، المؤلفة مع مصر أم ضد مصر، ممثلة في تلك الفترة ما بعد 1952 عندما كانت سامية لا تزال في التاسعة من عمرها، لعل هذا المأخذ هو ما دفع أحدهم في حفل التوقيع الذي أقامته الشروق لمواجهة سامية: "شعرت في الرواية بتعمد ما في نقل صورة سلبية عن مصر"، وهو ما وجدت نفسها أمام هذا التعليق تشرح دوافعها لكتابة "بيت العائلة" قائلة: "أنا معتزة بما كتبته، وأستغل إقامتي في الولاياتالمتحدةالأمريكية لتصحيح صورة الإسلام والمسلمين والعرب والمصريين". الحقيقة أن الأسلوب - عبر ترجمة نبيل نويرة - الذي نقلت إليه الرواية بالكلمات العربية، التي رفضت سامية قراءة مقاطع من الرواية بها علي الحضور لأنه "سأشعر أنها ليست كلماتي"، سيحاول هذا الأسلوب في كل جزء من أجزاء الرواية الثلاثة أن يحطم تلك الروح الاستعلائية، ربما "أم خليل" خادمة سرايا الباشا، التي تعمدت سامية الغموض بخصوصها في بداية ظهورها في الأحداث حتي تفاجئنا بحقيقة انتمائها، ستكون شفيعنا لالتقاط ما يجعلنا نتعاطف مع المؤلفة، وإلا لماذا حرصت علي التوقف جماليا وروائيا بعناية أمام ملامح أم خليل وهي تضرب علي صدرها يوم رحيل عبد الناصر صائحة: "أبويا مات"، تقول سامية: "حاولت أن أكون حقانية، أردت للشخصية الرئيسية أن تكون متفاهمة إلي حد بعيد مع انطباعات رجل الشارع التي هي بالضرورة مختلفة عن انطباعاتها". لم يخطر ببال ابنة الباشوات ودارسة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ماذا ستكون عليه مصر من نافذة بيت العائلة، تؤكد: "عند كتابة بيت العائلة لم يجل بخاطري الصورة التي ستبدو عليها مصر"، كل ما كان يقلقها كما تعترف أن الرواية تستند إلي جزء من السيرة الذاتية، "كنت خايفة ألا يتم التفريق بين الخيالي والواقعي"، فعند المصريين علي حد تعبيرها "اللي فات لم يمت"، يأخذون الأمور بجد حتي لو فات عليها سنوات. وهو ما جعلها بشيء من التحفظ تستقبل الطبعة العربية من روايتها الصادرة منذ 2002، لكنها علي أية حال كانت متفائلة أيضا مثلما شرحت في اللقاء الذي كان تجسيدا حيا وفعليا للحنين إلي الماضي البعيد، إذا كان أغلب حضوره سفراء سابقين وأصدقاء الكاتبة وأقاربها، قالت: "أتناول في أعمالي موضوعات شائكة ومثيرة للجدل تاريخية أو معاصرة، لهذا كنت أسأل نفسي هل الحوار القومي في مصر والعالم العربي مستعد لوجهات نظر جديدة؟"، وبدا لها الرد عمليا علي هذا السؤال بالإيجاب، لقد فوجئت بردود أفعال كلها تقريبا إيجابية إلي حد كبير، حتي السلبي في النقد الذي نشر بالجرائد تفهمته كما تصف في إطار أن لكل ميوله السياسية: "تعلمت أنا شخصيا من هذه الرواية أن تراثنا الشخصي من الممكن أن يكون تراثا عاما، ومن الممكن للآخرين بسهولة أن يعيدوا النظر في تراث غيرهم ومن ثم تقبله كجزء من التراث القومي". "هناك فرق ما بين الأدب والالتزام السياسي"، هكذا تمنعنا سامية من الظن بأن روايتها تصفية حسابات، تردد: "أنا معتزة بما كتبته"، وأن الأدب يصبح نوعا من الدعاية لا يقنع لو لم تكتب هي عن واقعها وخبراتها بصدق وصراحة، "لأن الأدب فن وليس تكليفًا سياسيا، يكتب بدافع الابتكار"، تري أنها اختارت "الحلو" في مصر، وأبرزت قيمة التضامن مع الفقير التي تجسدها العائلة مع الخدم، وتذهب إلي أبعد من ذلك: "من يريد أن يعرف أشياء مشرفة وحميدة عن مصر بصدق وصراحة عليه أن يقرأ كتبا مثل كتبي، أكتب ما يذكر العالم أن لنا حضارة عظيمة وأننا نفكر، أتحدث عن زمان التفتح والصدق وليس زمن التطفل". عن أحداث ما بعد ال11 سبتمبر تدور فكرة آخر كتبها "الحب مثل الماء" بالإنجليزية، لا تتخلي فيه عن إيمانها "بالازدواجية" التي تسمح برؤية الآخر وتقبل الآخر، تقول إنها في أمريكا يقابلونها بجملة "هذا النوع من المسلمين That kind of muslim"، وهي إلي الآن محتارة من صفة هذا النوع من المسلمين الذي يقصدونه، "عموما هناك صورة معينة عن المسلم في أذهان الأمريكان محيرة لكن نحن مسئولون عنها بطريقة أو بأخري"، من دواعي الحنين ذكرت ابنة شقيق فؤاد سراج قبل أن تعود إلي حياتها في نورث كارولينا حيث تقيم، إن عمها لو كان علي قيد الحياة حتي أيامنا تلك، كان سيتألم بشدة من أحداث الصراع الطائفي، لأن حزب الوفد كما تقول كان رمزا للوحدة الوطنية".