يواجَه دائماً إسحاق دي بانكولي بطل فيلم جيم جارموش الأخير، حدود السيطرة، بسؤال استفهامي، أو علي وجه الدقة، شبه استفهامي، وبلغات مختلفة. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ ودائماً تأتي إجابة البطل بكلمة نفي واحدة. الفيلم من أفلام الجريمة، والمألوف في هذه الأفلام أن تُستخدَم كل معلومة لخدمة الهدف النهائي، وهو القتل. يتلقي البطل تعليمات بأن يستخدم خياله ومهاراته في القتل، كل شيء شخصي أياً كان معني ذلك. منذ البداية يؤكد جيم جارموش في حوار فيلمه، النقاط الغامضة التي تنأي بالجريمة عما اعتادتْ في أفلام الإثارة أن تقترب منه، بل تلتصق به، وهو الوضوح القاتل، والاستقامة الدرامية المميتة. وعندما يقول جيم جارموش علي لسان الشخصية: كل شيء شخصي أياً كان معني ذلك، فهو يقصد هذا حقيقةً، أي يقصد أن الجريمة التي علي البطل القيام بتنفيذها، هي بشكل ما جريمته الخاصة، وهي تحقيق وجودي لوجود البطل ذاته، بصرف النظر عن إحساس البطل إسحاق دي بانكولي بأنها جريمته الخاصة أم لا. هنا نري عمق النظرة الكوميدية لجيم جارموش، فالبطل لا يشعر، أو لا يعطي إشارة، ولو هينة، بأن الجريمة القادم علي تنفيذها تمثِّل له شيئاً شخصياً، أو وجودياً، فقط هو يؤدي مهمته بجدية عالية، وحياد بارد، وهو أداء شائع في أفلام الإثارة التقليدية. الكوميديا تأتي عند جيم جارموش كما في أفلامه المميزة، أغرب من الفردوس، القطار الغامض، قهوة وسجائر، من تصلُّبٍ عضلي شديد في جسم الكوميديا، فشخصياته لا تعي عبث ما تقوله، ولا يخدم جيم جارموش الصورة كي تفصح عما هو مُتصلِّب في حوار شخصياته، بل تزداد الصورة مع الحوارات العبثية، جموداً وعرياً وتجريداً وصمتاً. الصمت في أفلام جيم جارموش ليس صمتاً يبتلع روح العالَم، الروح بالمعني الهيجلي، أي ليس صمت الحكمة، بل هو صمت يبتلع الفراغ، فراغ شخصيات بيكيت، أو هو صمت بارتلبي بطل هيرمان ميلفيل. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ قد يعتقد المُشاهِد العادي لأفلام الإثارة أن عدم تحدث البطل للغة الإسبانية، سيقفُ حجر عثرة أمام مهمة القتل، لكنه سيدرك بتكرار السؤال أثناء الطريق إلي القتل، أن البطل لا يعوقه عدم إجادته للغة الإسبانية في أداء مهمته، وشيئاً فشيئاً يتحول السؤال إلي معني آخر، معني أليف حميمي، علي أثره تنطلق الشخصية صاحبة السؤال أياً كانت، في حديث آخر لا علاقة له بمهمة القتل. إن الفخ الدرامي المعهود للتكرار، هو الوقوع في الاستجابة العاطفية، إلا أن بطل جيم جارموش لا يتعاطف مع الشخصيات التي تبوح بتأملات واستبصارات فلسفية بعيدة عن جريمة القتل. الاستبصارات والتأملات في حد ذاتها لا تحمل قيمة طالما أنها تُقال كنتائج حادة أدركتها الشخصيات في زمنٍ ليس هو زمن الفيلم، لهذا تبقي الاستبصارات والتأملات في فيلم حدود السيطرة مُعلَّقة في الفضاء، إلا أن علاقتها المُجاوِرة بعلبة كبريت أو وتر جيتار أو حبَّات ماس، وهي أشياء ترتبط بجريمة القتل التي علي البطل القيام بتنفيذيها، علاقة جمالية يخلقها جيم جارموش بعناية وزهد بصري لا حدود له. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ وضع جيل دولوز أيدينا في تحليله العميق لقصة بارتلبي النسَّاخ للكاتب الأمريكي هيرمان ميلفيل، علي سر التكرار في العمل الفني، لا سيما عندما يكون التكرار مُتخشباً مُتصلِّباً كما هو عند جيم جارموش. يحفر السؤال المُوجَّه للبطل في تكراره هوة سحيقة وراء اللغة، وكأنّ التكرار يبعد اللغة عن وظيفتها. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ وكما عند بيكيت وميلفيل تكون العينة اللغوية المُختارة التي تخضع لمعمل التكرار الدرامي، دائماً بسيطة ومعيارية ومُستخْدَمَة لحد الإنهاك. إسحاق دي بانكولي بطل فيلم حدود السيطرة الوحيد الذي لا يملك استبصارات وتأملات كما تملكها شخصيات الفيلم الثانوية، ولهذا قد يكون البطل هو المُستمع المثالي الوحيد، طالما لا يملك ذاكرة تُعكِّر صفو مرايا الشخصيات، مُستمع جيد دون عاطفة، ودون فائدة أيضاً. أنتَ لا تتحدث الإسبانية، أليس كذلك؟ كان التكرار دائماً علامة الجنون، دمغة علي عرض حال الوجود.