ما يعنيني في مشهد المصافحة التي تمت بين الأمير تركي الفيصل وداني أيالون نائب وزير خارجية إسرائيل، ليس عناصر السياسة فيه بما تعكسه كلمات الحوار المنطوق بين الطرفين ثم فعل المصافحة التي صفق لها الحضور بشدة، بل الصراع الدرامي بما يحويه من شحنات الفعل والحوار والحركة المختبئة (subtext ) بين الشخصيتين علي مسرح الحدث. فمنطوق الكلمات بل الفعل نفسه عندما يكون مخططا له لا يعطي صورة صحيحة للفعل، بمعني أنه لا يتناول الأعماق الكامنة وراء المشهد، أما عندما يكون الفعل وليد اللحظة فهو في كل الأحوال أكثر صدقا لأنه من صنع اللاوعي الذي يستحيل تزييفه أو التغطية عليه. الأمر هنا أشبه بين عمل الطبيب في العيادة والفرق بينه وبين وظيفة معمل التحليل الذي يتوصل إلي حقيقة العناصر المختبئة خلف التشخيص الظاهري. لقد استغرق المشهد أقل من دقيقة كما عرضته وكالات الأنباء تحولت فيها القاعة إلي ميدان قتال حقيقي بين الأمير ونائب الوزير. معركة لم تستخدم فيها أسلحة الميدان التقليدية، بل الحوار والحركة بالإضافة لبقية عناصر الدراما (طبقة الصوت السكتات المحسوبة النظرات) وكان الهدف عند كل من الطرفين بالطبع الاستيلاء علي جمهور القاعة وضمه إلي صفه. أريدك أن تلاحظ درجة الصوت الخافتة التي استخدمها الأمير تركي والتي تقترب من الهمس في الوقت الذي كانت فيه واضحة تماما لكل من في القاعة وذلك ردا علي أسلوب داني الزاعق الذي يجعله أقل تأثيرا في الحضور. من السهل أن يكتشف المشاهد تلك النزعة الاستعراضية القوية التي يتسم بها داني في طريقة جلوسه فوق المنصة ثم نبرة صوته في بداية المشهد والتي كانت تمثل هجوما واضحا وصريحا علي الجانب السعودي حاول قدر استطاعته أن يجعله مخففا بعدم ذكر اسم السعودية صراحة "مندوب لدولة أخري لا يريد أن يجلس معي في مكان واحد.. دولة لديها بترول كثير" في هذه اللحظة يكون داني ألقي القنبلة الكفيلة بتدمير المؤتمر. أما حكاية "لديها بترول كثير" فالهدف منها هو استبعاد تركيا من مرمي نيرانه ربما لإحساسه بأن خطأه السابق مع سفيرها في تل أبيب يفقده تعاطف القاعة. بجملة حواره الأولي يكون قد قال بغير إفصاح" هؤلاء الناس يتقدمون أمام العالم كله بمشروع للسلام ويحصلون علي موافقة كل الدول العربية عليه، وهاهم يرفضون الجلوس معنا في مؤتمر ليس له صلة بالصراع بيننا وبينهم.. هل تصدقونهم الآن؟.. أليس هذا دليلا علي أنهم يقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر؟" علي الفور أدرك الأمير تركي ما يهدف إليه داني، أن يقف الأمير ويدلي ببيان بطولي نجادي مشعلاني فارغ تحتفل به كل المحطات الفضائية وكتاب الأعمدة ثم ينسحب من المؤتمر. غير أنه ظل هادئا في مكانه وأخذ يشرح له وللموجودين السبب الحقيقي لتقسيم الجلسة إلي جلستين غير أن داني لم يستسلم وواصل الهجوم بسلاح جديد" إذا لم تكن تعترض علي وجودي، فهل تسمح لي بأن أتقدم منك وأصافحك؟" هنا يكون التوتر قد بلغ مداه عند الحاضرين في انتظار اللحظة التالية، إنها اللحظة الدرامية الحاسمة، هل يستطيع الأمير السعودي أن يقفز في لحظة علي مائة عام من الصراع والعذابات ليصافح مسئولا إسرائيليا مخاطرا في ذلك بأن توجه إليه تهمة التطبيع.؟ تلك التهمة السخيفة التي تحولت إلي عفريت يسكن عقول البشر في خرابات النقابات المهنية. لاحظ أننا نتكلم عن رجل عمل من قبل رئيسا للمخابرات السعودية، وسفيرا لها في أهم عاصمة علي وجه الأرض وهي واشنطن، كما يعمل الآن مسئولا عن مركز أبحاث سياسية. أي أنه في كل الأحوال يستحيل اتهامه بقصور في الخبرة السياسية أو أنه قابل للتنازل عن مصالح بلده. في هذه اللحظة يسقط الوعي السياسي بوصفه سدا يمنع السير في الاتجاه الصحيح، وتبدأ ماكينة أخري في العمل هي الحدس السياسي وهو حدس شكلته مئات وربما آلاف العناصر داخل النفس البشرية. هنا سأبتعد بك قليلا لأذكر لك جملة شهيرة لعالم النفس يونج" عندما تتعارض حسابات العقل مع حسابات الحدس القادمة من اللاوعي، الجأ فورا لما يطلبه منك الحدس" وفي تراثنا العربي نقول" استفت قلبك وإن أفتوك" في هذه اللحظة سيشير عليك العقل بأن تساير الآخرين من الساسة (الأبطال) وتخسر معركتك الحقيقية وهي أن تدفع عدوك لاحترامك، وأن تكسب احترام كل الجالسين في القاعة، وأن تكسب هذا الاحترام لنفسك ولدولتك وشعبك. من أقوال نجيب محفوظ لنا رحمه الله "أنا لا أتصور أن يطلب مني شخص أن ألقاه وارفض ذلك" هناك لحظات في تاريخ كل إنسان تتحكم فيها أخلاقياته فقط في سلوكه، إنها تلك اللحظات التي يفكر فيها الإنسان في المغامرة بكل مكتسباته من أجل أن يكسب نفسه، هذا هو الانتصار الحقيقي. كيف لعربي أن يطلب منه عدوه أن يصافحه ثم يرفض ذلك. ؟ السؤال الآن بعيدا عن السياسة والحدس السياسي، ماذا خسر الأمير تركي الفيصل وماذا كسب؟ ماذا خسرت السعودية وماذا كسبت؟ الإجابة: لم يخسر الأمير تركي شيئا ولم تخسر السعودية شيئا، لقد كسب الأمير وكسبت السعودية احترام العالم، ووصلت الرسالة وهي علي ما أتصور: لا بأس من أن نجلس معكم في أي مكان وأن نصافحكم في أي مكان.. غير أننا علي مائدة التفاوض سنكافح للحصول علي حقوقنا كاملة.