يندهش بعض الأصدقاء عندما أقول إن الأفلام كالأشخاص سواء بسواء ولكنها الحقيقة بالفعل.. هناك فيلم رقيق يمر كالطيف وآخر غليظ لا يمكن احتماله، فيلم أنيق ومهندم وآخر سيئ الشكل ومضطرب الهيئة، فيلم عميق ومؤثر وآخر سطحي وعابر، فيلم تنساه بعد أن تراه مهما تعددت مرات الرؤية وآخر لا يمكن أن تنساه أبدا حتي لو شاهدته مرة واحدة من هذه النوعية الأخيرة شاهدت الفيلم الألماني الفائز بجائزة الكرة الذهبية لأفضل فيلم أجنبي الذي يحمل اسم الشريط الأبيض أو The white Ribbon للمخرج النمساوي مايكل هانكيعمل شديد الأهمية يرسم صورة قاسية وصادقة لمقدمات الانهيار الألماني الكبير الذي ورط وطنا عظيما في حربين عالميتين خلال النصف الأول فقط من القرن العشرين.. يقول الفيلم الذي صور بالأبيض والأسود إن ألمانيا كانت مهزومة بالفعل بانهيار العلاقات الاجتماعية والأخلاقية، وبانعدام التواصل بين الأجيال، وبالتربية السيئة القائمة علي القهر والقمع الذي يؤدي إما إلي الخنوع أو الخضوع أو إلي الثورة والعنف المضاد، والأهم من كل ذلك أن ألمانيا كانت مستعدة للهزيمة بهذا التواطؤ علي الحقيقة رغم أن الجميع يعلمون أن هناك جرائم ترتكب وسط صمت رهيب.. فيلم قوي مؤثر حصل أيضا علي السعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير، كما حصل علي جائزة النقاد في نفس المهرجان، وهو يستحق بالتأكيد أي جوائز إضافية قد يحصدها. عنوان الفيلم الشريط الأبيض هو أحد مفاتيحه، ويعني ضمن أحداث الفيلم هذا الشريط الذي كان يضعه قس القرية في شعر بناته لكي يذكرهن بالبراءة، ويربطه في معصم أحد أبنائه ليقيده في السرير حتي يمنعه من العبث في المناطق الحساسة بجسده بعد أن شك في أنه يمارس العادة السرية مثل المراهقين في سنه.. ولكن الشريط الأبيض علي المستوي الرمزي يحمل معني أعمق هو فكرة البراءة الزائفة التي تعتمد علي الشكل والمظهر دون الجوهر، وقد كانت هذه البراءة الكاذبة والخادعة إلي الأيام السوداء التي عاشتها ألمانيا، ويتم ترجمة هذا المعني علي مستوي الصورة، حيث تبدو القرية مكانا رومانسيا وتظهر حقول القمح والبيوت الجميلة التي تحيط بها الثلوج البيضاء، كما يحرص مخرج الفيلم الكبير علي اختيار أطفال الفيلم في أعمارهم المختلفة بوجوه شديدة الجمال والبراءة، ولكن ما أن ندخل إلي أعماق القرية حتي نكتشف القبح والسواد الذي يترجم عن نفسه في صورة جرائم متتالية من البناء يتم سرد الأحداث من خلال عيون مدرس القرية الشاب الذي يبدو من صوته الذي نسمعه أنه يقدم شهادته بعد أن تقدم في السن، وربما بعد أن شاهد مأساة النازية في الثلاثينيات.. يقول المدرس إنه ليس متأكدا أن كل ما سيرويه كان حقيقيا، ولكن ما حدث في قريته يمكن أن يفسر ما حدث في بلده كلها، وأروع ما قدمه السيناريو لنا هذه الدراسة العميقة لممثلين لكل فئات المجتمع علي مختلف أعمارهم ومستواهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وكأنه يقوم بتشريح الوطن قبل الحرب العالمية الأولي، ويحلل نفوس وعملية تنشئة أطفال تلك السنوات الذين سيصبحون بدورهم الأساس الذي يقوم عليه الحزب النازي، والذين سيدفعون ثمنا باهظا للأيام السوداء رغم إحاطتهم بالأشرطة البيضاء والمضحكة في طفولتهم. خريطة الشخصيات هائلة ويمكن تقسيمها علي النحو التالي: لدينا أولا أبطال الحكاية المحوريون وهم البارون الثري الذي يمتلك معظم الأرض والذي يعمل في أرضه معظم سكان القرية، وطبيب القرية الذي يعيش حياة خاصة مضطربة بعد وفاة زوجته حيث يتحرش بابنته الشابة ويتخذ له عشيقة، وقس القرية الذي يربي أولاده الأربعة علي الصرامة والمراقبة، والذي يحقق معهم بطريقة تذكرنا بما يفعله محققو النازية، وهذا القس هو صاحب فكرة الشريط الأبيض التي يتخذها الفيلم عنوانا له، وأخيرا هناك مدرس القرية الشاب الذي يروي الأحداث وهو الشخصية الأكثر احتراما واعتدالا في الفيلم، ولكننا سنعرف في النهاية أنه جُنِّد في الحرب العالمية الأولي، وأنه لم يستطع أن يتزوج من الفتاة الوحيدة التي أحبها، أي أنه حتي أفضل الشخصيات لا تستطيع أن تفعل شيئًا في هذا المناخ الفاسد. في المستوي الثاني توجد فئة أخري من الشخصيات التي تتعامل مع الفئة الأولي مثل مراقب أرض البارون، ومراقب العمال البائس الذي ماتت زوجته بسبب ظروف العمل الشاقة في منشآت البارون، ووالد خطيبة المدرس الشاب الذي يعامله بصرامة والذي يبدو مثقلاً بأعباء كثرة الأولاد، ولدينا أيضاً مس فاجنر عشيقة الطبيب البائسة التي تخدم أبناءه، والتي أنجبت طفلاً متأخراً عقلياً هو كارلي. أما الفئة الثالثة من الشخصيات فهم الجيل الأصغر في أعمار سنية مختلفة مثل ايفا (17 سنة) وهي خطيبة المدرس التي كانت تعمل كمربية لأطفال البارون، وآنا (14 سنة) ابنة الطبيب التي تتعرض لانتهاك جسدها من والدها، ورودلف شقيقها الأصغر الذي يشعر بالفزع والخوف بعد وفاة أمه، ويكون شاهداً علي شذوذ والده مع اخته. ولدينا أيضاً ماكس المراهق ابن مراقب العمال الذي يبدو ثائراً بسبب ظروف العمل التي أدت إلي وفاة أمه في عملها عند البارون، وهناك بالطبع أبناء القس الأربعة خاصة مارتن الذي يراقبه ويعاقبه والده لاكتشاف ممارسته للعادة السرية، وكارلا اخته التي يعلن والدها خيبة أمله في سلوكها داخل الفصل فتسقط علي السلم، ولدينا أيضاً إيرنا. ابنة مراقب الأرض الذي يبدو أنها تخفي أسراراً عن الجرائم التي تحدث في القرية، ولا ننسي زيجي ابن البارون الذي يتعرض للضرب والإغراق في المياه من الأطفال وبالطبع لدينا ابن مس فاجنر المتخلف الذي يلخص مأساة هذا الجيل البائس. تتوالي الجرائم الغريبة داخل القرية، الطبيب مثلاً يسقط من فوق حصانه بسبب سلك رفيع تم وضعه في طريقه بين الأشجار، ويحدث حريق هائل في أحد المخازن، ويتم تعذيب ابن البارون مما يدفع أمه إلي السفر به إلي إيطاليا، ويتعرض الطفل المتخلف كارلي للتعذيب البشع، وتتوالي اللوحات السوداء: الطبيب يهين عشيقته مس فاجنر ويتحرش بابنته، القس يحقق مثل رجال البوليس مع ابنه مارتن، زوجة البارون تعود من إيطاليا لتعترف لزوجها أنها احبت شخصاً آخر ومن الواضح أنها اتخذته عشيقاً، ولا يوجد وسط هذا المناخ الكابوس الذي يعبر عن أطلال مجتمع إلا قصة الحب الرقيقة التي لن تنتهي بالزواج بين المدرس والمربية الشابة الجميلة إيفا الحقيقة أن المدرس سيحقق فشلاً مزدوجاً في حبه وفي اكتشافه لهذه الجرائم رغم وجود شكوك قوية لديه بأن أطفال القرية هم صناعها، ولكن القس يرفض مجرد التفكير في ذلك، أنه يعلم أن الجيل الجديد ليس علي ما يرام بمن فيهم أولاده أيضاً، ولكنه تعود علي اخفاء الحقيقة التي ستقود في النهاية إلي دخول ألمانيا الحرب بعد قيام أحد الشبان الصرب باغتيال الارشيدوق رودلف في سراييفو، هنا مجتمع منهار بالفعل يلد أجيالاً مريضة ستزيده انهياراً في الحقبة النازية. ولكن قيمة الشريط الأبيض ليس فقط في هذا التحليل الذكي والقوي والعميق لاحوال ألمانيا من خلال قرية صغيرة قبل الحرب العالمية الأولي، ولكنها أيضاً في التعبير البصري بالأبيض والأسود فقط عن ذلك، لقد اعطي هذان اللونان البعد الزمني المطلوب، ولكنهما أظهرا التناقض الحاد بين كل العناصر، التناقض بين المظهر البرئ والنفوس القاسية، بين جيل الكبار وجيل الصغار، حتي العواطف تتحول من النقيض إلي النقيض بين الطبيب وعشيقته وبين البارونة وزوجها وبين الأطفال مع بعضهم البعض، ورغم هذا الوضوح الحاد والتناقض بين الأبيض والأسود إلا أننا لن نعرف أبداً حقيقة ما حدث خاصة بعد هروب مس فاجنر وابنها ثم اختفاء الطبيب وأولاده. المخرج الكبير نجح أيضًا في إدارة ممثليه الكبار خاصة الممثلة الرائعة التي لعبت دور مس فاجنر وكل الأطفال خاصة الذي لعب دور مارتن كما نجح باقتدار في استغلال كل مفردات المكان: الكنيسة الصامتة التي يقدمها في ثلاث لقطات متتالية تبدأ وهي في النور وتنتهي في الظلام، حقول القمح الرائعة التي تظهر مع تعليق يتحدث عن الحرب التي لن تبقي شيئاً، هذه الشخوص التي تبدو مثل جثث تخرج من قلب الظلام. يقول فيلم الشريط الأبيض أن الحرب هي رأس جبل الجليد، فالانهيار يبدأ عندما نكذب علي أنفسنا، وعندما نقهر الآخر باسم التربية، وعندما تضيع الحقيقة، وعندما يولد العنف في نفوس أطفال أبرياء.