مما لا شك فيه أن قيام الرئيس باراك أوباما بتعيين السيناتور جورج ميتشل مبعوثا خاصا له في الشرق الأوسط بعد يومين من دخوله البيت الأبيض عكس توجها لوضع ملفات الصراع في المنطقة في موقع متقدم من أولويات الإدارة الجديدة ، ومنذ ذلك الحين أضحت زيارات ميتشل موضع اهتمام من قبل العواصم العربية التي رأت في النجاح الذي سبق وأن حققه في ايرلندا الشمالية، وما تضمنه تقريره كرئيس للجنة تقصي الحقائق حول أسباب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 عناصر تدفع علي التفاؤل، وفي المقابل فإن تتابع هذه الجولات من جانب، وتأخر ظهور مؤشرات ملموسة علي تحقيق التقدم من جانب آخر، فتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول طبيعة مهمة السيناتور الأمريكي وما يملكه في جعبته من أدوات لانجازها، وفي هذا الخصوص قد يكون من المفيد تركيز الضوء علي بعض النقاط الرئيسية: 1- تمثل الهدف المعلن لمهمة المبعوث الأمريكي في السعي لتحقيق السلام في المنطقة، إلا أن القراءة الدقيقة للواقع تجعل الأمر يبدو وكأن الدور الأساسي الموكل إليه تمثل في إعطاء الانطباع بحضور أمريكي مستمر علي الساحة، من خلال لقاءات متتالية مع الأطراف المعنية، في مسعي للتقريب بين وجهات النظر لإطلاق مفاوضات ثنائية تؤدي في مرحلة لاحقة إلي تسوية الصراع بشكل دائم، وفي هذا السياق تمثلت أهمية الجولة العاشرة للسيناتور الأمريكي في أنها تزامنت مع مرور عام علي تولي الرئيس أوباما لمقاليد السلطة في بلاده وتأهبه لإلقاء خطابه الأول عن حالة الاتحاد الذي يحدد عادة معالم التحركات والتحديات والنجاحات، سواء علي المستوي الداخلي أو الخارجي، خلال عام فضلا عن وضع الخطوط العريضة للتوجهات الرئيسية لمواجهة التحديات المختلفة علي مدار العام التالي. ومن هذا المنطلق كان مطلوبا من المبعوث الأمريكي أن يقدم للرئيس أوباما ما يمكنه من القول بأنه نجح في إطلاق المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية التي تم تجميدها قبيل دخول أوباما إلي البيت الأبيض، الأمر الذي بدا بعيد المنال في ضوء المعطيات السلبية التي أحاطت بالجولة الأخيرة للمبعوث الأمريكي، وهو ما انعكس علي خطاب حالة الإتحاد الذي جاء خاليا من أية إشارة إلي هذا الملف علي أهميته وخطورته. 2- إن تحليل مضمون جولات المبعوث الأمريكي يشير إلي أن تحركاته افتقرت إلي وجود إستراتيجية عمل أمريكية واضحة يتم الالتزام بها والسعي إلي ترجمتها علي أرض الواقع، فعلي حين بدت الأولوية في مرحلة أولي علي أنها تحقيق اختراق من خلال قضية الاستيطان، دارت في مرحلة لاحقة حول هدف ترتيب لقاء، حتي وإن كان رمزيا، يجمع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية برئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو ما تم بالفعل في سبتمبر 2009، وأخيرا تغير الهدف ليصبح إطلاق المفاوضات بين الطرفين دون شروط مسبقة، في إشارة واضحة إلي تمسك الطرف الفلسطيني، بالمطلب الذي صاغته الرئاسة الأمريكية نفسها، والخاص بالتجميد الكامل للاستيطان في كافة الأراضي المحتلة بما في ذلك القدسالشرقية. 3- بدا من الواضح أن المبعوث الأمريكي في جولاته المكوكية في المنطقة لم يملك أيا من أدوات التأثير الحقيقية علي الأطراف المعنية؛ حيث اقتصر الأمر علي مجرد اللقاء باللاعبين الرئيسيين والحديث معهم في محاولة إقناع كل منهم بأهمية تحقيق السلام وضرورة تقديم التنازلات، وهو أمر اتفق عليه الجميع منذ عقدين علي الأقل وإن اختلف مفهوم كل منهم لهذا السلام ومتطلباته الرئيسية، في ظل عدم وجود موقف أمريكي متكامل حول كافة ملفات الصراع، وقد أدي ذلك إلي بروز بعض التوجهات المهمة خلال الجولة الأخيرة، تم تسريبها إلي وسائل الإعلام، هدفت إلي إعادة تشكيل التحرك الأمريكي ليصبح أكثر ديناميكية وفعالية؛ حيث أشار بعضها إلي إمكانية إيكال الطرف الفلسطيني للولايات المتحدة مهمة التفاوض نيابة عنه في ضوء توجه عام يستند إلي خطوط الرابع من يونيو 1967 مع القبول بفكرة تبادل الأراضي بنسبة 3٪ ، وطرح البعض الآخر فكرة قيام إسرائيل بتجميد النشاط الاستيطاني في القدسالشرقية لمدة ستة أشهر بما يسمح بإطلاق المفاوضات بدءا بملف ترسيم الحدود تمشيا مع الرؤية الأمريكية. 4- أختتم المبعوث الأمريكي جولته الأخيرة بإعادة التأكيد علي موقف بلاده الداعم لحل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، ومسعاها لتحقيق سلام شامل في المنطقة يشمل كلا من الجبهتين السورية واللبنانية، وبالرغم من ذلك لم ترد أية إشارة إلي سبل تحقيق مع استمرار حالة التعارض بين موقف السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية من جانب، والخلاف الذي نشب حول إمكانية تحريك المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، في ضوء تمسك الأولي بالوساطة التركية، ورفض الأخيرة لذلك والذي وصل إلي حد إلماح وزير الخارجية الإسرائيلي، ورئيس حزب إسرائيل بيتنا الحليف الرئيسي في الائتلاف، بإمكانية انسحاب حزبه من الحكومة في حال عودة تركيا إلي لعب هذا الدور، أما فيما يخص لبنان فإن الأوضاع تشير إلي استمرار تباعد خيار التسوية في مقابل احتمالات التصعيد. 5- ساهمت الاعتبارات السابقة في دفع عدد من الكتاب والمحللين السياسيين في الولاياتالمتحدة نفسها إلي البدء في الحديث عن نهاية مهمة جورج ميتشل، بل وذهب البعض إلي مطالبته علنا بالتنحي عنها، ونشير علي وجه الخصوص إلي دعوة أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب "اللوبي اليهودي والسياسة الخارجية الأمريكية" ستيفن وولت، إلي ضرورة استقالة المبعوث الأمريكي حفاظاً علي صورته الجيدة في الرأي العام الأمريكي ولينهي خدمته وهو مرفوع الهامة، خاصة وأنه مكلف بمهمة افتقرت إلي الوضوح من جانب والدعم المطلوب لنجاحها من جانب آخر. وإذا كان بقاء أو انسحاب جورج ميتشل من مهمته شأنا خاصا به، تبدو أهمية هذا التحليل في مدي انعكاسه علي المواقف العربية عامة والفلسطينية خاصة من تحركات الإدارة الأمريكية فيما يخص قضية السلام في المنطقة، فنظريا لا يمكن السماح باستمرار محاولات محكوم عليها بالفشل مسبقا، وعمليا يجب الضغط في اتجاه تحقيق انخراط أمريكي حقيقي في جهود التسوية، ويتطلب ذلك وضع أسس إستراتيجية واضحة علي مستوي العالمين العربي والإسلامي تطالب الإدارة الأمريكية بالوفاء بوعودها المتصلة بإرساء أسس جديدة للتعامل تقوم علي الاحترام والمصالح المتبادلة، وترفض أساليب إضاعة الوقت لتجنب الانجراف في تيار التشدد والتصعيد الذي لا يصب في خانة المصالح الأمريكية ولا يخدم قضية السلام في المنطقة، وبعبارة أخري فإنه إذا كان مطلوبا من الإدارة الأمريكية إعادة تقييم سياستها في المنطقة، فإنه مطلوب، وبشكل أساسي، من العالم العربي أن يقود حملة منظمة تسعي إلي التأثير علي عملية إعادة التقييم الأمريكية، ليس فقط من خلال الحجج والأسانيد، ولكن بشكل رئيسي استنادا إلي منطق المصالح المتبادلة.