المؤكد، ودون أي شك، أن أذهان الغالبية العظمي، من أبناء الشعب المصري، مشغولة بمباراة كرة القدم في الدور قبل النهائي للبطولة الأفريقية، التي تجري في أنجولا، بين الفريق الوطني المصري ونظيره الجزائري. وحتي هؤلاء "اللي ملهمش فيها"، ولا يدركون الفارق بين كرة القدم والبطيخ المروي بمياه الصرف الصحي، مهتمون بالحدث بدرجة تعادل اهتمام مشجعي الكرة ولاعبيها والعاملين في مجالها ومحللي البرامج الرياضية وما أكثرهم. السياسيون أيضاً يراقبون الحدث ويرصدون الأجواء التي تسبقه وسيحققون في تداعياته بعد انتهائه. شئنا أم أبينا فإن مباراة في كرة القدم صارت محكاً للحكم علي العلاقات بين بلدين عربيين، والشعوب العربية التي تخسر كل يوم علي أصعدة مختلفة لم تعد تقبل أن تخسر فرقها الرياضية من الفرق العربية الأخري، وما جري في أم درمان قبل وأثناء وبعد المباراة الفاصلة بين الفريقين المصري والجزائري لم يتم احتواء آثاره بعد والإعلام "المتخلف" في البلدين ظل يسكب البنزين علي النار كلما هدأت فيعيدها إلي الاشتعال مجدداً، ولاعبو الكرة السابقون المحللون التليفزيونيون الحاليون وكتاب التعليقات علي الأخبار الرياضية في مواقع الانترنت يرفضون بشدة انتهاء الأزمة دون أن يقضي طرف علي الآخر. شخصياً لم أكن أتمني المواجهة بين الفريقين في أي مرحلة من مراحل البطولة، الأفريقية في أنجولا، وكنت أتوقع أن تكون القمة العربية المقبلة المقررة في ليبيا في مارس المقبل مجالاً لتجاوز بعض الحساسيات بين المسئولين السياسيين في البلدين، إذ سيحرص الزعيم الليبي معمر القذافي، الذي تربطه صلات قوية بالرئيس حسني مبارك والرئيس بوتفليقة، أن يتم علاج ما جري في أم درمان في طرابلس، وكنت أتصور أن الشعوب العربية تنسي بلاويها ومصائبها بسرعة إذ جاءتها البلوي من طرف غير عربي وإذا هبطت عليها المصيبة من أي أجنبي وأن تداعيات المنافسة المونديالية تحتاج إلي وقت حتي يتم تجاوزها علي المستوي الشعبي، لكن القدر وظروف المنافسة في البطولة الأفريقية أعادت البلدين إلي مواجهة جديدة قبل أن تنتهي آثار المواجهة السابقة، وقبل القمة العربية أيضاً. عموماً لاحظت رغبة عند المسئولين الرسميين في البلدين في التهدئة، لكن النار علي مستوي مشجعي الكرة ما زالت مشتعلة. من تابع الصحف الجزائرية يدرك إلي أي حد مازال التحدي مستمراً، وفي الوقت نفسه فإن التهور من جانب بعض المحللين المصريين يدور، والمصيبة أنه ليس تحدياً أو تهوراً رياضياً أو كروياً وإنما يزج بالبلدين إلي أتون معركة جديدة نحن في غني عنها. كنت أفضل ألا تسمح أنجولا باستقبال جمهور من البلدين وأن تجري المباراة في الظروف التي جرت فيها المباريات السابقة دون فنانين مصريين أو "مناصرين" جزائريين، لا أتصور أن يلعب الفريق الجزائري مبارياته في كأس العالم المقبلة دون أن يشجعه الشعب المصري، لكن جمهور الكرة في مصر الذي لم ينل اعتذاراً جزائرياً حتي الآن عما حدث في أم درمان، ولم يصله شعور بالذنب من جانب أي طرف جزائري، ربما يتمني مجرد تعامل متحضر من جانب لاعبي الفريق الجزائري وجهازه الفني والإداري. أما لاعبونا وجهازهم الفني فهم "أطيب من الطيبة" و"أغلب من الغلب" ولا أتصور أن يكون بينهم من يرفض مصافحة أو يقابل الابتسامة بالركل والضرب والشتيمة. أدرك أن بيننا من يطالب بالثأر ورد الإعتبار ويرفض منطق الشقيقة الكبري التي تتلقي دائماً الطعنات من الأشقاء الصغار، وعلي النقيض بيننا من أدان تصرفات المسئولين المصريين ورأي في أحداث أم درمان تهويلاً، لكن المؤكد أن أولئك وهؤلاء مثلي تماماً لا يرغبون في مأساة جديدة لن يكون الرابح فيها إلا أعداؤنا الذين يجيدون الصيد في الماء العكر ويجب علينا أن نعكر لهم مياهنا لمنعهم من صيدنا كمصريين وجزائريين في آن. ويكفينا أننا تحولنا كعرب الي طُعم للقوي الأخري التي تلتهمنا كل يوم. كمصري أتمني فوز منتخبنا الوطني، وكعربي يرصد التراجع العربي منذ سنوات، أدعو الله أن تغلب الحكمة والعقل والاستنارة وألا تقضي المباراة علي أي أمل في العودة بالعلاقات الرسمية والشعبية بين مصر والجزائر إلي الأيام الخوالي التي كان كل طرف يضحي بالمال والنفس في سبيل حرية وأرض الطرف الآخر قبل عصر الفضائيات.. والمحللين "اللي ملهومش فيها".