فكَّرتُ دائماً أنها شبيهة الممثلة مارلين ديتريش. منذ أن شاهدتها في حفلة، أعلنتُ لها عن وجه الشبه بينهما، هي ومارلين ديتريش. كانت سعيدة بالتشبيه. وكانت مُنَاسَبَات رؤيتي لها مُتقطعة، وعلي غير انتظام. حدث لي بعد سنوات شيء غريب، وهو أنني كلما رأيتها في مكان ما صدفةً، كلما بهت وجه الشبه بينها وبين مارلين ديتريش، لكنني بعد الابتعاد عنها، أفكرُ من جديد أنها شبيهة الممثلة مارلين ديتريش. جاءتني في الحلم بوجه غاب عنه الحاجبان في ظلام شَعْرها. كانت بين الحين والآخر، وبأطراف أصابعها، تنزل الحاجبين من فروة رأسها. كانا قوسين رفيعين تائهين علي الجبهة الواسعة. بسعادة لا توصف وجدتُ مُنَاسَبَة قول، البعض يفضلونها ساخنة، وهو اسم الفيلم الشهير للمخرج بيلي وايدر، أعني بمُنَاسَبَة القول، الجملة الحوارية التي جاءت علي لسان توني كيرتس لمارلين مونرو. شاهدتُ الفيلم كثيراً، وفي مراحل عمرية مختلفة، إلا أنني لم أفكِّر يوماً في تدقيقات من هذا النوع، يبدو أن التدقيق المتحذلق والتافه ربما، له علاقة بالتقدم في العمر، وله علاقة أيضاً بالفراغ الكبير. علي شاطئ البحر تتعرف مارلين علي توني المدعي شخصية مليونير ضعيف البصر، وأثناء تعارفهما، يخبرها أنه لا يحب موسيقي الجاز، وأن البعض يفضلونها ساخنة، لكنه يفضِّل أكثر الموسيقا الكلاسيك. من غير مُنَاسَبَة القول، يبقي اسم الفيلم قوياً قياساً لأحداثه الدرامية، لكنَّ الجمع بين المُنَاسَبَة والمعني هو الإحكام الكامل في الفن والحياة. ربما لو أحصيتُ المُنَاسَبَات المُتفرقة علي مدي عشر سنوات، وهي المُنَاسَبَات التي جعلتني أقيم وجه الشبه بين المرأة وبين مارلين ديتريش، لعرفتُ سبباً حقيقياً وراء وجه الشبه الزائف. كانت في الحلم تجد بسهولة، وبأطراف أصابعها، الحاجبين التائهين في شعرها الغزير، أكثر من معرفتهما علي الجبهة الملساء العريضة، وكأنها ترتاح وهما في غياهب الظلمة. لا أمل لي هذه المرة، وكما في مرات سابقة، أسير وراء فكرة، أتمسك بها، أخلص لها، ثم أجد نفسي في طريق مسدود. أهدي لارس فون ترير فيلمه الأخير ضد المسيح إلي المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي. كتب لارس فون ترير اسمه علي الفيلم بطباشير مبلول، لكنَّ الإهداء إلي المخرج الجليل، جاء علي خلفية سوداء، شديدة الكلاسيكية. التحية عندما تكون من القلب، ومن مخرج كبير إلي مخرج أكبر، تؤدي باحترام، علي الرغم بيانات الدوجما. حضور الاسم، هو حضور لروح تاركوفسكي التي ترف علي سماء الفيلم. أجمل وأقوي أفلام لارس فون ترير. ضد المسيح أو المسيح الدجَّال. بداية الفيلم بداية ميلودرامية. زوجان يفقدان ابنهما أثناء فعل الحب. الإدانة ثقلية، ليستْ إدانة إهمال فقط، بل إدانة مُرتبطة بخطيئة مسيحية لا غفران فيها. الجنس، وهو شر، لارتباطه بالمتعة الخالصة، الجنس كان ضحيته الطفل الصغير. هنا يترك لارس فون ترير الميلودراما، كما لم يستطع في أفلامه السابقة، ويتفرَّغ لمصارعة المعاني الكبيرة. الألم، اليأس، الشر، الخوف، الجنون، العنف. يذهب الزوجان وليم ديفو وشارلوت جينسبورج إلي غابة عدن، أو جنَّة عدن. أفضِّل أن نكون أكثر بروداً في تأويل الكلمات المُباشِرة في فيلم لارس فون ترير، أو علي الأقل نقرأ الكلمات المُباشِرة في الفيلم من خلال الشخصيتين الأساسيتين. الزوج والزوجة هنا وكما في شخصيات تاركوفسكي، علي سبيل المثال، العالِم والكاتب والمتسلل في فيلم ستالكر، أو إلكسندر في فيلم القربان، يحملان الوجود كله علي كتفيهما، وهما في فيلم لارس فون ترير جديران بهذا الحِمْل الوجودي، إلا أنهما يختلفان عن شخصيات تاركوفسكي في يأسهما المفرط. قوة لارس فون ترير في هذا الفيلم، هو استسلامه لصنع صورة جميلة، ليستْ خشنة حسب تعاليم الدوجما، وكأنه أدرك أخيراً أن الصورة لا تخضع لدعاوي الحداثة والبيانات النظرية. ليستْ هناك سينما فقيرة بصرياً علي طريقة السينما الإيرانية. من الممكن أن تكون السينما مُتقشفة كما لدي جيم جارموش في أغرب من الجنَّة، لكنْ ليستْ فقيرة بصرياً. ظلال تاركوفسكي علي فيلم فون ترير تظهر بوضوح في الغابة، الريح التي تُحرِّك العشب، الأمطار، الاحتفاء بالصمت والسكون. الحقيقة أن غابة فون ترير تشبه إلي حد ما المنطقة التي تدور فيها أحداث فيلم ستالكر، إلا أن لارس فون ترير أكثر شراً من أندريه تاركوفسكي، فمنطقة تاركوفسكي آمنة رغم وحشتها، وغابة لارس فون ترير غادرة. وتحت بند التفضيلات الجمالية، وهي في صلب الفيلم أيضاً، كنت مسروراً بابتكار لارس فون ترير لآلات تعذيب بدائية، قرن وسطية. ببريمة حديد تُجوِّف شارلوت ربلة ساق زوجها، وتضع في الثقب بعد أن تختبر مجراه بإصبعها، مسماراً موصولاً بقرص حديد جلخ، ومن الناحية الأخري تربط قلوز مسمار إسطوانة الجلخ بصامولة سميكة، لحبس الساق مع قرص الإسطوانة، وبمقص صدئ تجز جزءاً حميماً من جسدها.