استمعت إلي برنامج البيت بيتك حينما استضاف المتحدث الرسمي للخارجية المصرية حيث دار حوار حول ما أقامته الحكومة المصرية علي حدود مصر الدولية بينها وبين قطاع غزة، وكم استغربت من سؤال طُرح من مقدم البرنامج حول تسمية ما تقيمه الحكومة المصرية، هل هو جدار عازل؟ أم إنشاءات هندسية؟ والأعجب ليس في صيغة السؤال وإنما في الإجابة عليه حيث لاحظت أدبًا زائداً من المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية، حيث قرر وأصر علي تسمية ما يقام بالإنشاءات الهندسية وكأن قولنا أنها جدار حدودي عازل بيننا وبين قطاع غزة قول معرّة أو اصطلاح عورة نستحي أن نظهرها، إننا يا قوم في حاجة إلي تجديد الخطاب العام ليعالج الأمور من جذورها لأننا نواجه قومًا أصحاب فتنة وسفهاء أحلام، لا بشرع التزموا ولا بعقل رغبوا، إنما أهواء في أهواء، فلا يوجد مانع شرعي ولا عرفي ولا إنساني ولا أخوي في أن تنشئ الحكومة المصرية ما تشاء من وسائل لحماية حدودها من المتسللين إليها أياً كانوا أعداءً هم أم أشقاء جاروا علينا، ولا أري سبّةً في أن ننعت هذه المنشآت بالجدار العازل الأمني طالما قد ثبت بالدليل القاطع انتهاكات أمنية علي الحدود المصرية الغزاوية، أمَّا المسيرات الغوغائية والحناجر العنترية التي تتعلل بالأخوة الإيمانية والقومية العربية نقول لهم إن لمصر بحكومتها ونظامها حدودًا معروفة وولايتها علي تلك الحدود، ولا ينازع في ذلك إلا غبي أو متغابي، فإن الأخ الشقيق إذا تعدي حدوده جاز للأخ المعتدي عليه أن يدفعه بل في الإسلام حكم الصائل وهو المسلم الذي يتعدي علي مسلم آخر والمقرر هو جواز دفعه ولو أدي ذلك إلي قتله إن كان في تعديه مفسدة أعظم، وأي مفسدة أعظم من أن تنتهك الحدود بلا ضابط ولا رابط، إن البعض يطالب مصر بما ليس في حدودها ويطالبها أن تسير في فلكه بغض النظر عن المصالح أو المفاسد، إن القوم يتحدثون عن حصار غزة ولا يتحدثون عن أسباب هذا الحصار وإنما فقط يتحدثون عن وجوب فتح مصر لحدودها لإخواننا الفلسطينيين بدون تمييز أو ضبط أو ربط، فالغوغائيون لا يعبأون بالمفاسد التي تعود علي مصر من جراء الأنفاق التي تنشأ من غزة إلي رفح المصرية والحجة في ذلك إغاثة إخواننا في محنتهم، وهل توجد دولة في العالم تترك حدودها بدون ضوابط أمنية؟ إن الحكومة الأمريكية بتفوقها التكنولوجي واستخدامها لأحدث الأجهزة في قطاع المخابرات والأمن حينما اكتشفت محاولة لتفجير طائرة أمريكية وضعت قيوداً مشددة علي الطائرات التي تأتي إليها من دول معينة ولم ينكر أحد ذلك ومن أنكر فلا تعبأ به الحكومة الأمريكية، وحينما انتهك الحوثيون اليمنيون الشيعيون العرب الحدود السعودية ردت الحكومة السعودية ردًّا موجعاً علي تلك التجاوزات، إن البعض إمّا لجهل أو هوي أو لعاطفة جياشة قد لا يعبأ بالمخاطر الأمنية علي حدود مصر وغيرها، فإذا أراد الفلسطينيون فك الحصار فيمكنهم ذلك إذا التزموا عقولهم وحكَّموا ضمائرهم والتزموا سياسة مصر إن رغبوا في مساعدتها لهم، أمَّا أن يتصوروا أنه بغوغائية الحماسيين يستطيعون خلخلة الأمن والمصالح المصرية فهم واهمون، من يريد من مصر أن تلعب دوراً كبيراً عليه أن يسلم أولاً لمصر ولرؤيتها، إنهم دائمًا يتكلمون عن دور مصر ويصفونه بأوصاف أنثوية فيقولون مصر الشقيقة الكبري، وأنا أريد هنا أن أنادي بتغيير هذا النعت، وإن كان ولا بد من وصف لدور مصر فلنقل مصر الأب الأكبر أو الشقيق الأكبر أو الشقيق الكبير لأنه قد يشاركنا في هذا الدور إخوة كبار وآباء كبار، فدعونا من الشقيقة الكبري فإنها دعوة فيها خبث لابد من ردعه بالحكمة والعقل الرشيد، كيف يستقيم هذا الوصف عند من يتحدثون به والصغار لا يعبأون بنصائح الشقيق الأكبر أو الأب الكبير؟ فيا أيها الفلسطينيون إن مصر قد حددت لنفسها سياسة ولا أظن أن قيادة مصر أو غالبية الشعب المصري يفكران في تغيير هذه السياسة والتي تتلخص في ضرورة إقامة معاهدة سلام بين يهود ودول المنطقة، وعلي ضوء هذا الأصل ينبغي أن يتحرك الفلسطينيون، فحينما تحدد مصر نقطة الانطلاق بضرورة المصالحة الفلسطينية فعلي الفلسطينيين أن يخضعوا لهذه النقطة وإلا فلا يلوموا إلا أنفسهم، كما عليهم أن يسلكوا سبيل الكبار في مفاوضاتهم مع يهود فلا يوجد طريق آخر الآن غيره يستطيع الفلسطينيون أن يسلكوه إلا طريق الحناجر العالية والخطب الحماسية وذلك لا يسمن ولا يغني من جوع، فكان الأولي بنواب البرلمان المصري الذين أخذتهم الحماسة فعبروا بألفاظ بذيئة عن موقفهم من صنيع الحكومة المصرية علي حدودها الدولية أن يوجهوا نقدهم لتلك الفِرقَة التي أحدثت الفُرقَة الفلسطينية السياسية فصار العالم لا يعرف من الكبير الذي يتحدث باسم الفلسطينيين؟ إن مصر لم تُحدِث هذا الخرق، كما أن مصر حذرت من عدم قبول هدنة السلم فكان رفض ذلك سبباً لاجتياح يهود لغزة، إنني هنا في هذا المقال لا أتملق نظام مصر وإنما أتكلم برؤية شرعية وأخري عقلية، فعلي الذين يطالبون مصر بطلبات خارج حدود مصر أن يطالبوا من بخارجها أن يلتزموا بتوجهاتها وسياستها وإلا فلا معني لهذه المطالبات إلا الفوضي والغوغائية، وفي السياق نفسه أشير إلي منقبة بمجمع البحوث الإسلامية حينما أقرّ الحكومة المصرية علي صنيعها علي حدودها، إلا أنني أستسمح المجمع نفسه فأعترض علي رده لفتوي القرضاوي في ذات الموضوع بأنه بيان سياسي، بل كان ينبغي علي فقهاء مجمع البحوث أن يردّوا علي فتوي القرضاوي بوصفها فتاوي مغشوشة لا تستند لمنطق الشرع ولا منطق العقل، وأتساءل في هذا السياق هل فعلاً عُين يوسف القرضاوي عضواً بمجمع البحوث الإسلامية؟ فإن كانت الإجابة بنعم، فكيف ذلك والرجل فقيه الفرقة المحظورة كما هو معلوم بالضرورة. أعتقد أن هذا الكلام قد لا يعجب الكثير حيث يبقي التساؤل العاطفي كيف ننشئ جداراً بيننا وبين إخواننا وهم في حاجة إلي طعام وشراب وكسوة وعلاج؟ والإجابة إن وجود هذا الجدار لن يمنع وصول الطعام والشراب والكسوة والعلاج إلي إخواننا في فلسطين ولكن بالترتيب مع الحكومة المصرية بما لا يتعارض مع أمنها القومي وقد سبق أن اقترحتُ في أثناء أزمة الحصار أن تقوم الأممالمتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية بالتنسيق مع الحكومة المصرية بإنشاء معرضٌ تجاري عالمي في رفح يحتوي علي كل ما يحتاجه الآدمي وينَظَّم دخول التجار الفلسطينين لشراء ما يحتاجون، كما اقترحتُ أن تقوم ذات الجهات المذكورة بإنشاء مركز طبي عالمي علي أرقي مستوي في رفح أو العريش لعلاج الفلسطينيين وكل ذلك بالتنسيق مع الحكومة المصرية والجهات المعنية، أما صيحات الغوغائية والحماسية فلن تزيد الأمور إلا خساراً ليس للفلسطينيين بل وللمصريين أيضاً، فهل عقل القوم ما أقول؟ أشك. وكلمة أخيرة أوجهها لأولي النهي والعقول والكتّاب في مصر أولاً قبل غيرهم عليهم أن يتدبروا القول ولا يجرمنهم شنأن قوم علي ألا يعدلوا أطالبهم أن يعدلوا فإن العدل أقرب للتقوي، فمصر لها إمكانياتها وقدراتها ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والذي يدرك تلك الإمكانيات والقدرات هم أهل الاختصاص أي ولاة أمر هذه البلاد وهم أدري بما هو متاح في الداخل أو الخارج، أما هؤلاء الكتَّاب أو الخطباء الذين يجلسون علي عروش وهمية بلا مسئولية فيتكلمون بما شاءوا وهم عن المسئولية ساهون، كان الأجدر بمن وجه سهامه إلي مصر أن يخاطب من تسبب في هذه المحنة الفلسطينية، كما أخاطب الإعلام الرسمي أن يكون أكثر جرأة في تحرير مواطن النزاع الفكري ليبادر المخالفين لا أن يقف مدافعًا تجاه المخالفين سواء من كانت له رؤية شرعية أو سياسية.