إن تبلور رؤية الإسلام في أوروبا لم يحدث بين يوم وليلة بل بدأ حتي قبل أحداث ال11 من سبتمبر ففي 1989 ومن خلال قضية الحجاب الإسلامي في فرنسا اكتشف الفرنسيون فجأة وجود إسلامي كبير ومثير للجدل في بلادهم وفي الواقع فإن مسلمي فرنسا هم أكبر أقلية إسلامية في الغرب. وكانت الحرب العلمانية ضد الحجاب في المدارس هي في الحقيقة حرب ضد الايديولوجية الإسلامية المختفية وراء الحجاب.. هكذا كانت وظلت القضية دائما وانتهت بمنع الحجاب في المدارس بعدها بأكثر من 15 عاماً! إلا أنه كان يمكن تفادي صدور مثل هذا القانون - قانون منع الحجاب في المدارس والذي في الواقع لم يغير الكثير لأن المشكلة اتخذت في بعض الأحيان أشكالاً أكثر تطرفا مثل الحجاب المتشدد أو النقاب الذي يشغل الآن بال المشروع الفرنسي وتسبب الحرج للمؤسسات الإسلامية حتي الأكثر تحفظا منها. لكن التصويت السويسري ضد بناء المآذن جاء ليعطي للأمور بعداً جديداً فقد حول الخوف من الأسلمة إلي خوف من الإسلام في حد ذاته لأن أحدا اليوم لا يستطيع أن يؤكد أن المآذن من صنع المتشددين من المسلمين إن السويسريين قالوا بصوت عال ما يدور بصوت خافت في أذهان كل الأوروبيين بما فيهم الفرنسيون. ومن بين الحجج التي قدمها أولئك الذين صوتوا ضد حظر بناء المآذن مبدأ المعاملة بالمثل وهو فكرة موجودة في أوروبا منذ مدة بمعني أنهم خرجوا بأعداد كبيرة للتصويت ضد المآذن تضامنا مع الأقليات المسيحية التي تعيش في الدول الإسلامية! وبهذا تختفي كل قيم الحرية والمساواة والديمقراطية وحتي القيم المسيحية الأصيلة مثل حسن استقبال الغريب ليحل محلها قانون العين بالعين والسن بالسن فجاء التصويت غريباً ومثيراً للجدل فلا هو علماني ولا هو كاثوليكي. كما أن حجة المعاملة بالمثل هذه غير متناسقة فهي تستغل المسلمين في الغرب كرهائن كما أن أوضاع الأقليات المسيحية فيما يطلق عليه الغرب بشكل عام العالم الإسلامي تتسبب فيها أنظمة سياسية لا تقوم فقط بتهميش الأقليات الدينية أو العرقية بل والأغلبية المسلمة من السكان أيضا تعيش فيها محرومة من الحرية والحقوق الأولية. هذه الأنظمة السياسية المتعاقبة لضمان بقائها للأبد في الحكم تتلاعب أحياناً بالدين وأحيانا تلعب علي وتر القومية وأحيانا أخري تتلاعب بإثارة الأقليات العرقية بعضها ضد بعض هل هذا نموذج تحتذي به الديمقراطيات الغربية؟ لقد قام السويسريون بهذا التصويت بإنتاج وتصدير أكثر ما يكرهون: التعصب. أما الكنيسة الكاثوليكية فمن جانبها بقت لحسن الحظ وفية لقيمها ومسئولة ومتسقة مع نفسها فقد تلقت باستنكار نتائج هذا التصويت في الوقت الذي دعا فيه بعض الكاثوليك من اليمين المتطرف إلي منع بناء المساجد نهائيا بمئذنة! أو بدون! ولدينا منهم عينة في بوردو. وواقع الأمر أن هناك نوعين من الحواجز النفسية التي يجب تجاوزها: أولا القناعة العقائدية المحفورة في أذهان البعض بأن الإسلام دين جامد وبالتالي فإن المسلمين لا يستحقون بل وغير قادرين علي الوصول إلي المواطنة الأوروبية الكاملة. والمفارقة في هذه القصة أن السويسريين قد صوتوا ضد رمز معماري ذي أصل مسيحي وليس إسلامياً فالمآذن بناء مستوحي من الكنائس المسيحية في الشام السابقة لظهور الإسلام وحتي الحرم المكي والمدني لم تكن لهما مآذن فلنقتدي إذن بالمسلمين الأوائل ونستلهم من البيئة المحيطة ولا نظل متمسكين بالماضي. ومن جانب آخر فإن منع المآذن في سويسرا يجب أن يدق ناقوس الخطر لدي المسئولين الدينيين والمسلمين في أوروبا للأخذ في الاعتبار هذا النوع من ردود الأفعال العاطفية فلا يمكن أن نفكر في صورتنا في الغرب دون أن نأخذ في الاعتبار هذا النموذج من اللاعقلانية واللامنطقية الذي يميز عالمنا المعاصر. لذا يجب أن نكيف وجودنا الديني بناء علي المعطيات التي يقدمها لنا الواقع الذي أصبح غير متوقع وأكثر تعقيداً يوماً بعد يوم بدلا من التوحد والانغلاق علي الذات والتمسك ببعض الحقوق حتي وإن كانت مشروعة إلا أنها تعطي صورة سلبية للمجتمعات الأوروبية.