البخس العلمي هو أصدق وصف لما صار عليه الحال في هذا البلد منذ فترة ليست بالقصيرة بشأن البحث العلمي وملابساته ونتائجه وكل ما يحيط به، كما أن الرأي العام يعلم مدي التدهور الذي ألم به ولكن معدل التدهور بات سريعا وواضحا ويحتاج إلي عصا سحرية كي يقوم من مقامه هذا ليلحق ببعض الدول التي كانت لا تملك من المقومات العلمية والتعليمية شيئا يذكر ولكنها الآن في مصاف الدول المتقدمة، وحتي لا يذهب بنا الخيال بعيدا فلا داعي للمقارنة بالولايات المتحدة وكندا أو بدولة فرنسا أو انجلترا أو ألمانيا أو ببعض دول أوروبا الشرقية وكذلك لن نقارن مصر بدولة اليابان ومؤخرا الهند والصين وسنجابور وكوريا لأن هذه المقارنة ليست في صالح الظروف في مصر التي نال فيها البحث العلمي كثيرا من البخس الذي أدي إلي خروجنا من السباق الدولي الراهن علي التقدم العلمي والتقني والصناعي الذي يؤدي إلي رفاهية الأمة لدرجة أن الدول المتقدمة تتسابق فيما بينها علي جودة التعليم والبحث العلمي ووصل كل منهم إلي مستويات يحسدها عليها الآخرون.. مثال لما أقول برنامج الفضاء في الهند الذي توصل مؤخرا إلي إطلاق صاروخ متعدد الأقمار فسبقت بذلك جميع الدول من أعضاء نادي غزو الفضاء أمثال أمريكا وفرنسا أو روسيا ، في مقابل ذلك توصلت وكالة الفضاء الأمريكية إلي التوسع في أبحاث الفضاء المتعلقة بالمريخ، وهكذا تتسع الفجوة بيننا وبينهم كما لو كانوا هم من سكان الفضاء ونحن من سكان القبور؟! البحث العلمي يبدأ بفكرة ما قد تكون جديدة تماما أو سبق تناولها من منظور معين ولها نتائج من الممكن تطويرها وفكرة البحث في محيط الموضوع عادة ما يكون صاحبها هو الأستاذ وأحيانا يكون طالب البحث هو المبتكر لها ولكي تكون موضع دراسة لا بد من القراءة الجيدة المتأنية لمعظم ما تم دراسته في نفس الاتجاه ويتم بلورتها حسبما تسفر عنه من تطوير هذا بالإضافة إلي ملكة الإبداع والتطوير وابتكار مسارات البحث مع الجدية في التعامل والتداول، والي هنا فالأمر سهل ولابد من حساب الإمكانات التي تساعد علي تحقيق تلك الفكرة وأهمها توافر عينات الدراسة ووسائل التحليل والقياس وفحص النتائج والتعليق عليها ثم اختيار انسب القوالب لعرضها علي لجنة الممتحنين أولا ثم جمهور المتخصصين ثانيا. تبدأ خطوات العمل عند بداية جمع المادة العلمية المستهدفة لتلك الدراسة ثم تسجيل البيانات والملاحظات وإجراء التجارب والفحوص اللازمة ومقارنتها بتجارب ونتائج مشابهة مع تطوير طريقة البحث والتناول حتي يتضح الفرق بين القديم والجديد، جمع المادة العلمية قد يحتاج إلي مساعدين علي دراية بنوع الدراسة ووسائل نقل ومواصلات تتناسب مع طبيعة العمل وأساليب إعاشة لائقة خلال تنفيذ تلك المهام، كما يستدعي تسجيل البيانات أجهزة حديثة كي يتم بواسطتها حفظ البيانات بالصوت والصورة وحساب معدلاتها ورسم نتائجها واستنباط علاقاتها، ولكن الإمكانات متواضعة تماما من حيث مساحات المعامل وتجهيزها المكتبي ثم تجهيزها المعملي ونسبة عدد العاملين في وحدة المساحة وإمكانيات التشغيل الآمن للمعامل كل هذا غائب وربما لا يعرفه أصحاب الشأن أنفسهم؟!، بالإضافة لما ذكرت من متطلبات البحث ، كما أن الإشراف العلمي وهو الجانب الذي يرتكز عليه أسلوب البحث والاستنتاج في أغلب الأحيان يتم بالمجاملة أو بالقهر وذلك طمعا في بدل الإشراف علي الرسائل وفي السلطة العلمية كي يزايد الأساتذة علي بعضهم البعض في عدد الرسائل العلمية التي يشرفون عليها ومعظمها به تكرار ممل لنفس الموضوعات بلا تجديد وأحيانا نجد أحد الأساتذة يقوم بالإشراف علي عدد كبير من المساعدين وأستاذا آخر لا يتولي الإشراف علي أحد ويعد هذا نوعا من الاقطاع العلمي. أما ميزانيات البحث العلمي فهي هزيلة تماما ولا تكفي لبدء أي دراسة ناهيك عن إجرائها ، أحيانا كثيرة يكون نصيب الفرد من ميزانية البحوث في القسم التابع له عشرة جنيهات فقط لا غير سنويا؟!، ناتج قسمة الميزانية علي عدد أعضاء البحوث في كل شهر، هذا عدا اللوائح التي مازالت هي نفسها لوائح العمل القديمة المطبقة في كل الوزارات مطبقة في البحث العلمي مثل لائحة المخازن والمشتريات ولوائح الحضور والانصراف وبدلات السفر والانتقال والتمغات الحكومية وبالطبع الضرائب بكل أنواعها ، كما أن الأجور لا تتناسب مع ظروف العمل والمستوي الاقتصادي والاجتماعي لأعضاء هيئة البحوث والتدريس الجامعي ولذلك جرت في السنة الأخيرة محاولات ركيكة لرفع الدخول ولكنها بقيت مرهونة بأمور غريبة، ولا أعتقد أن استجداء الرواتب المعقولة يؤدي إلي نتائج بحثية لها مصداقية ولديها الأصالة الفكرية المناسبة ولكنها سوف تكون علي طريقة سد الخانات؟!. النشر العلمي وهو عصب البحث العلمي بدونه لن يفي أحد بشروط الترقي وهي نشر عدد من الأبحاث في دوريات علمية متخصصة سواء في الداخل أو في الخارج وبالطبع وصلت الأمور إلي حد المجاملة والاتجار حيث أن رسوم نشر الصفحة الواحدة بلغت أرقاما عالية مع التهاون في جدية البحوث، أضف لذلك السرقات العلمية ولقد صارت حديث المدينة في كل قسم وكل كلية وكل جامعة هناك عدد من الروايات قيد التحقيق يخضع لمجالس التأديب والسبب هو الترقيات التي هي باب جهنم لكل أعضاء هيئة التدريس حيث تنتابها أعراض مختلفة من التشدد أو التساهل بشكل غير منطقي بعيد عن المعايير القياسية للتقييم، وهل يعلم القارئ أن جمهور الباحثين في مصر ليس لديهم الموارد المالية الكافية لإتمام المراحل التي تم عرضها في هذا المقال ابتداء من جمع العينات وتحليلها ثم عرض النتائج وحتي كتابة الرسالة وتقديمها للتحكيم، بل وأن مصروفات البريد السريع يتحملها الدارس كي لا تضيع الرسالة في غياهب البريد العادي المسموح به قانونا؟، وفي النهاية يحصل الدارس علي مكافأة الدرجة وهي ألف جنيه فقط لا غير بينما يحصل المشرفون جميعا علي نصف هذا الرقم نظير الإشراف علي الرسالة؟!