في العام 1976 أصدر الفيلسوف الفرنسي " ميشيل فوكو " الجزء الأول من كتابه "إرادة المعرفة" أبان فيه كيف انتقل "كرسي الاعتراف" من الكاهن إلي المحلل والطبيب النفسي، ليثبت أن نشأة العلوم الانسانية في القرن التاسع عشر لم تكن بفعل التطور الطبيعي للعلم ذاته، بقدر ما كانت إرادة سياسية قصدية للغرب، الذي حاول ضبط انفلات المجتمع وتنظيمه في قوانين صارمة، من خلال التعرف علي أحلامه وطموحاته وتطلعاته وأمراضه واحباطاته وهواجسه أيضا، بعد أن غيب كرسي الاعتراف "الديني" منذ القرن السابع عشر. كان "سر الاعتراف" يمارس في أوروبا العصور الوسطي، علي نطاق واسع في الكنيسة الكاثوليكية، قبل ظهور البروتستانتية (أي المحتجين علي ممارسات رجال الدين) التي ألغت الواسطة بين الإنسان وخالقه بإلغاء سلطة الكاهن الروحية عبر سر الاعتراف، في العديد من المناطق والدول الأوروبية التي انتشرت فيها. ويبدو أن ممارسة عملية الاعتراف هذه كانت وسيلة ناجعة في عموم أوروبا للتعرف علي أمراض المجتمع وللتنفيس النفسي، فضلا عن إراحة الضمير المتعب والمثقل بالذنوب. وحين غاب أو غيب هذا الكاهن أصبح البديل الضروري في أوروبا العلمانية هو المحلل والطبيب النفسي، حيث يجلس إليه المريض ويبوح بكل ما يخالجه من هواجس وأفكار ومخاوف. أول من جمع بين الكاهن والطبيب النفسي في العصر الحديث، وخبر عن كثب الطبيعة السيكولوجية للمتدينين، هو الكاردينال الفرنسي "جان جيرسن" الذي شغل منصب مدير (كلية اللاهوت) في أوروبا، وأصبح هو الرقيب علي الأخلاق في عصره، وكان عقله الحصيف والمدقق الأكاديمي أليق العقول ذ حسب يوهان هويزنجا في كتابه العلامة "اضمحلال العصور الوسطي" ذ للتمييز بين التقوي الحقيقية والهوس الديني. كان "جيرسن" كاهن اعتراف فذ، وعالمًا سيكولوجيا بفطرته، ومن أقواله المأثورة: "إن العالم يقترب من نهايته، وهو كعجوز خرف معرض لجميع أنواع الخيالات والأحلام والأوهام التي تقتاد كثيرًا من الناس إلي أن يضلوا عن طريق الصدق". "ليس ثمة شيء أخطر من التبتل الديني المقترن بالجهل، فإن المتبتل المسكين يستدعي أمام مخيلته جميع أنواع الخيالات والصور دون أن يؤتي القدرة علي التمييز بين الصدق والخداع". "إن لحياة التأمل أخطارًا عظيمة، فإنها عادت علي كثير من الناس بالسوداوية أو الجنون". هكذا استطاعت حدة ذهن جيرسن السيكولوجية، أن ترسم داخل إظهارات التقوي، خط التقسيم الفاصل بين ما هو مقدس محمود وما لا يمكن قبوله. فلم يحاول رجال الدين قبله مواجهة ذلك، بيد أنه كان من اليسير عليه، بوصفه لاهوتيا محترفًا أن يفرق بين الذيوع والانحرافات وبين العقائد. فقد صرح بأنه: "ما من فضيلة تلقي، في هذه الأيام التعسة، إهمالاً أكثر مما يلقاه التعقل والتدبر" وكأنه كان يستبق عصرنا ويتحدث عن عالمنا المعاصر. كانت المؤسسة الدينية في العصور الوسطي (تتسامح) إزاء تزايدات دينية كثيرة، شريطة ألا تؤدي إلي ظهور البدع سواء في الأخلاق أو المذاهب الدينية. وكان الانفعال المفرط لا يعد عندها مصدر خطر طالما بدد نفسه في الخيالات المقترنة بالغلو أو النشوات. علي أن هذه العاطفة نفسها سرعان ما أصبحت خطيرة، بمجرد أن أراد أصحابها غير قانعين بحبس أنفسهم في دائرة تدينهم الخاصة تطبيق مبادئهم علي الحياة الكنسية والاجتماعية معا .. هنا فقط اضطرت الكنيسة للتبرؤ من هؤلاء المتعصبين المرضي. لقد كانت الحاجة ماسة لشخص مثل "جيرسن" لإدراك أنه هنا وبالتحديد كانت العقيدة مهددة بخطر خلقي وعقائدي. لقد سبق "جيرسن": "اسبينوزا" و"وليم جيمس" و"فرويد" و"يونج"، و"جاك لاكان" وغيرهم، ويبدو أن عالمنا المعاصر مايزال بحاجة إلي استبصاراته أكثر من أي وقت مضي!