عمليا أجري هذا الحوار قبيل أيام من إعلان القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، التي تشغل الشاعرة اللبنانية جمانة حداد منصب المدير الإداري لها، لكن حملت أسئلتنا إرث الجدل الذي صاحب إطلاق الجائزة الأولي من نوعها في الوطن العربي، وحالة الفوران التي أحدثتها في الأوساط الأدبية العربية لعامين ماضيين وبوادر هذا العام كذلك، المترجمة التي تتقن سبع لغات، ومسئولة الصفحة الثقافية بجريدة "النهار" وصاحبة الإنتاج الأدبي الغزير والمتنوع، الحاصلة مؤخرا علي جائزة "شمال - جنوب" الإيطالية في الشعر، حلّت علي مصر ضيفة ل"دار آفاق" - ناشرها المصري - للاحتفال بإطلاق وتوقيع الطبعة المصرية من ديوانها "مرايا العابرات في المنام" الذي صدر أواخر 2008 عن النهار البيروتية. ثلاثة أيام لجمانة في القاهرة: يوم لعقد اجتماع لجنة البوكر، وآخر لحفل توقيع بمكتبة الديوان حضره السفير اللبناني بالقاهرة خالد زيادة وعدد كبير من المثقفين والكتّاب المصريين وأصدقاء الشاعرة، والأخير التقيناها فيه للحديث عن طبيعتها الجدلية والثرية، فهي إلي جانب جدل البوكر وجدل دواوينها الصادمة وموضوعاتها الجريئة المثيرة، أسست مجلة "جسد" لتسقط ورقة التوت عن أكبر تابوهات مجتمعاتنا العربية. القطة المشاكسة والنمرة المتحفزة التي أدرج اسمها في نتائج المسابقة الجدلية الأخري "بيروت 39"، تحدثت عن مشاريعها الجديدة، التي يبدو أنها لن تخلو من الشراسة والخطورة والتمرد المعهود، فهي تعمل حاليا علي إنهاء كتابين: الأول نثري تفكيري حول المرأة العربية عنوانه "قتلتُ شهرزاد"، والثاني مجموعة شعرية جديدة بعنوان "كتاب الجيم"، حدثتنا أيضا عن انتصارها للشعر، فالشاعرة صاحبة "عودة ليليت" المسئولة عن جائزة للرواية يستفزها نجاح الرواية وزمن الرواية، تعتز بالشعر وتعتبره نبض العالم، والرواية ليست همها. كيف تنظرين إلي الجوائز الأدبية ومنها "البوكر العربية"؟ - الجوائز ليست عيبا، وهي مهمة للكاتب إذا كانت الجائزة تتمتع بمصداقية، الجوائز التي أنالها مثلا توضح لي مدي الاهتمام بشعري وأعمالي، المهم في الجائزة أن تتخطي بعدها المادي وتحدث تغييرا جذريا في الكاتب والحياة الأدبية والثقافية، وهذا ما تفعله البوكر، أن تساهم في الحوار الثقافي رغم أن كلمة حوار أصبحت "معلوكة" مستهلكة. أحدثت البوكر العربية انقلابا بسبب شرط ترشيح الأعمال من قبل الناشر علي غرار البوكر البريطانية.. فما تعليقك؟ - علاقة الناشر بالكاتب في الوطن العربي مشكلة فعلا، الناشر العربي تعوّد في كثير من الأحوال التحول إلي مجرد مطبعة، ما تساهم فيه الجائزة هو إحداث نوع من التواطؤ والمرافقة بين الناشر والكاتب، أعرف أن ذلك الشرط من الممكن أن يلحق الظلم ببعض الكتاب الذين يعانون من بعض الإقصاء من ناشريهم، لكن البوكر من دون ادعاء تجبر وتساهم في إعادة النظر في هذا الأمر، وسنة بعد سنة نتوق للثقة. بعد منحها عامين متتاليين لكاتبين من مصر، يصبح السؤال مشروعا عن حيثيات الجائزة؟ - نهتم في المقام الأول بالشرط الأدبي الذي ينظر إلي أهمية العمل وليس إلي أهمية الكاتب، فالتوازن في البوكر غير مطلوب تماما، أي التوازن بين أهمية الكاتب وأهمية العمل، ومنح الجائزة في دورتيها الأولي والثانية لمصريين، أقوي دليل علي ذلك، أننا ننظر إلي قيمة العمل الروائي بغض النظر عن جنسية واسم كاتبه، ثم إن التوازن غير مطلوب في البوكر من ناحية أنه من الحاصل فعلا أن يلحق الظلم ببعض الكتاب كما قلت، الذين لن يحالفهم الفوز بالبوكر لأنهم يخضعون من الأساس إلي الإقصاء من قبل ناشريهم. تواجه البوكر العربية انتقادات بشأن هويات وأسماء لجان التحكيم والقائمين عليها، فكيف ترين هذا الانتقاد؟ - لا تعليق، وأرجو عدم الدخول في هذه المهاترات. مؤخرا نظمت محاضرات وورش عمل للمبدعين الشباب باسم البوكر العربية، هل تعتزم الجائزة أن تؤسس نفسها كمؤسسة ثقافية شاملة؟ - تطمح البوكر العربية إلي المساهمة بشكل فاعل في دعم الرواية العربية المعاصرة، وسوف تكون هناك سلسلة من المبادرات المختلفة علي هذا المستوي. الموت أو الانتحار في ديوان يستند إلي انتحار 12 شاعرة ب12 طريقة، وكذلك كانت فكرة أنطولوجيا ل150 شاعرا منتحرا، لماذا يبدو الموت والانتحار بالذات موضوعك الأثير؟ ليس إغواءً، وليس غواية الموت، أنا أحب الحياة ومتشبثة بها، إلا أن الموت يرافقنا ولا يفارقنا منذ أن نخلق، قصدت النبش والحفر في معني الموت، بعد التعب الذي أصابني من إنجاز الأنطولوجيا، أردت التنفيس ومواجهة فكرة موتي ب12 طريقة، الديوان هو نوع من الانتقام الشعري بين مزدوجين: بين المعاناة التي عايشتها مع الأنطولوجيا ككل، ومعاناتي مع الشاعرات ال12أنفسهن، واجهت في هذا الديوان شيطان موتي، واعتقد أنني خرجت منتصرة، لقد قلت للموت: أنا لست خائفة منك، لقد واجهت الخوف من الموت أول مرة عندما انتحرت جدتي، فأهديتها هذا الكتاب، لقد شعرت بأنه حان الوقت لأواجه هذا الوحش، اكتب عن جدتي رواية هي مشروعي من زمان، لكن ما أمتلكه حاليا رءوس أقلام، ستكون فعلا رواية صعبة، لأنها قائمة علي حقائق ومعلومات وتاريخ شخصي، هي نوع من الحلم يمكن أن أحققه، ويمكن لا. "ثم إنك جنس أيها الموت"، ترافق هذه الجملة قارئ الديوان منذ أول سطر وفي كل مشهد، أي غاية أردتها من الربط بين الجنس والموت؟ - لست أنا المخترعة الأولي لتيمة الربط بين الجنس والموت، بل إن الجنس هو الوجه الآخر للموت، لحظة النشوة هي ميتة صغري، موت عابر، الجنس والرغبة تمرين علي الموت، كليهما الموت والجنس غياب في مطلق ما، لقد كان الجنس أقوي معين لي للتعبير عن فعل المواجهة مع الموت الذي أردته، شئت أن أتخيل الجنس كمساوفة إيروتيكية مع هذا "البعبع" الذي هو الموت، تخيلت الموت شابا وسيما مغريا، أتحداه لكن ليس بمنطق الخوف، بل بعلاقة قائمة علي نوع من الإغراء المتبادل، ثم إنك تستطيعين القول بأن موضوع الإيروتيكية أو العجينة الاغتشارية هي نبض الشعر الذي أكتبه، لغتي شهوية، لغة تتوق إلي اللمس، إلي الحفر إلي الخربشة، تصوري عن الموت ليس رومانتيكيا لذلك من غير المستغرب كتابة الديوان بتلك الطريقة الصادمة. أنت قارئة جيدة للرواية، كتابك "في صحبة أهل النار" حمل حوارات مع كتّاب للرواية عالميين، وتتعرضين ببعض النقد الأدبي للروايات في مقالاتك الصحفية، إذن أين أنت من كتابة الرواية؟ - لا أبتعد عن الرواية، ولا أتملص منها، إن في شعري نَفَس حكاية، لكن كياني كيان شعري بامتياز، وليس همي أن أكتب رواية، بل إن مقولة زمن الرواية تستفزني وتثير استنكاري، عندما توزع دواويني آلاف النسخ حول العالم أتيقن تماما بأنه ليس هذا الزمن زمن رواية، بإمكانك إذا شئت أن تقولي أن اعتزازي بالشعر وتمسكي بكتابة الشعر هو نوع من الحزبية إن صح التعبير، لكنها ليست حزبية بالمعني السياسي المبتذل الذي لا أفضله، بل بمعني الانتماء الكياني والوجداني، وحتي لو كتبت رواية ستكون شاعرة تكتب رواية، إن روح العالم هي الشعر، بل الشعر هو قلب العالم الذي ينبض، أقول هذا رغم أنني لا أحب مثل هذه الإكلشيهات، صحيح أنني أتغذي من الرواية، لكن نهاراتي وقراراتي كلها تتغير من بيت في قصيدة. ما مواصفات الشعر الذي يشدك ويغيرك؟ - لا مواصفات، الشعر الحقيقي والصادق فحسب، الذي ليس له مواصفات سوي أنه "بيلمسك"، مهما كان شكله وموضوعه، الشعر الذي يخاطبك كإنسان، مهما تكون أحوالك وانتماءاتك، عموما هو الشعر الذي من شروطه التحرر من النطاق الضيق، الذي يخاطبك وكأنه كتب لأجلك فقط. ما رأيك في الجدال القائم بشأن قصيدة النثر؟ - هذا الجدل مع احترامي لأصحابه، أتفرج عليها بنوع من الإحساس بالعبثية، فالشعر في ماهيته بالدرجة الأولي حرية، لا يوجد قالب أو قانون، ولا يملك أي شخص تحديد حدود الشعر، هذا الجدال ضد تعريف الشعر تماما، أتعجب أننا علي مشارف ال 2010 ومازلنا في غمار تلك الجدالات العبثية البيزنطية. ماذا قصدت بإصدار مجلة عن ثقافة الجسد ونشرها في الوطن العربي الذي يضع الجسد والحديث عنه ضمن المحرمات؟ - فكرت في مجلة "جسد" من سنتين، ونحتفل قريبا بمرور سنة علي صدورها، أنا شخص واقعي كثيرا، بالرغم من أن صورة الشعراء في المجتمع الذي أنتمي إليه كأنهم أشخاص دائما علي رأسهم غيوم وخيالات، أحترم الخلاف مع المجلة، كما أحترم النقد والنقاش المفيد، احترم كلا الطرفين: الموافق وغير الموافق، وأحصل علي حصتي اليومية من التشجيع و"الشتائم"، من البرافو وأيضا من كلام من قبيل: "إيه ده!" وأنت تفسدين أخلاق مجتمعنا، وكل هذا كنت مستعدة له، وعموما أنا لا أعوّل علي الإجماع، أعتبره دلالة سيئة وشيئاً غير طبيعي كما يحدث في الانتخابات الرئاسية، لكن حقي في المقابل أن أضع المجلة في متناول الجميع، فهي ليست برنامج "بورنو" علي التليفزيون، بل مجلة راقية مغلفة تباع للراشدين، وكقارئ أنت مضطر ومجبر لأن تتفهم حقي في صنع هذه المجلة، المعادلة إذن واضحة وبسيطة، أقول لمن لا يشاركني هذا الحلم: أنا لا أريد أن أغير العالم والناس، لم أركض وراء قضية، شغفي هو محركي الأول، شغفي الخاص هو بالإبداع والحياة، والمجلة إحدي نقاط شغفي. بعض الاعتراضات التي تواجه المجلة، تخص غلبة التركيز في موضوعات الأعداد علي البعد الجنسي للجسد فقط؟ - الإيروتيكية هي بعد أساسي وضروري في المجلة، بل إني أتعمد أن أرفعه عاليا، في ثقافتنا العربية كنا أربابا في مثل هذه الكتابات، ومع ذلك نتحدث عن جسد الآخر، خلال القرنين ال11 وال12 كنا نعلّم الغير، من أوّل النفزاوي والسيوطي، لذلك لا أستورد شيئا من الخارج، كل ما أفعله أنني أنبّه ثقافتنا العربية، لمواصلة التراث، والمجلة تنطلق من هذا الإرث، أنا لا أخترع شيئا، أقول لمعارضي ارجعوا لكتبنا، التي تسمونها اليوم أفكارا غربية، أتحفز للجسد بسبب أنه "تيمة مخطوفة" تم الاستيلاء عليها وخنقها، نخجل ونستحيي ونحتقر الجسد، مع أننا نمارس مع الجسد أطول وأجمل علاقة، فكل يوم نتعاطي معه، ونستمتع بتمتعه بالحياة والأكل والجنس والرياضة، "ما فينا نتخلي عن الجسد"، لا أزعم أن أزمتنا مع الجسد هي الأزمة الوحيدة، لكن ليس بإمكاني أن أخوض معارك الدنيا كلها، كل ما هنالك أنه شغف خاص، ودائما أقول إذا اشتغل كل واحد علي الشيء الذي "يغيظه" بتلك الطريقة التي اشتغلت عليها في الجسد والموت، ستتغير الدنيا. كيف تواجهين تلك الانتقادات؟ - أواجه فعلا عراقيل مرعبة، الأكثرية تهتم فقط بالصور الصادمة للأعمال الفنية التي ترافق موضوعات المجلة، وهؤلاء لا يهمونني، لا يهمني من لا يستطيع التفريق بين الفن الإيروتيكي والبورنوغرافي، هؤلاء تستفزهم الصورة، ولا يقرأون الكلمة، مع أن الكلمة أخطر، وبالفعل المجلة خطيرة، وإلا ليس لها معني، "إحنا ما بنتسلاش"، لكنها بالأساس فكرة فنية بحتة، لأن من يشتري المجلة بقصد أن يشعر بإثارة سيخيب أمله. رغم رحابة موضوع الجسد وأهميته وغموضه، لكن ألا يمكن التصور بنفاد الموضوعات سريعا، ومن ثم نفاد المجلة؟ - صحيح أنه ليس لدي فريق عمل، أتحمل أعباء المجلة وحدي، لكن أمتلك أجندة بها أفكار للمجلة لمدة عشر سنوات، وعندما تنتهي المدة بإمكاني الحديث أخيرا عن مشكلة الأفكار، مشكلة نفاذ الموضوعات ستكون آخر مشكلة تواجهني، هناك موضوعات عن الجسد العاجز والمعقّد والمقعد، ولا تنسي أنها مجلة فصلية، إذن عندي الوقت بل الوقت الكثير.