الفن يشترك مع الرياضة في عدة ملامح أولها أنه تنافس علني شريف وثانيها أنه يتيح الفرص للمهارات الفردية لكي تتألق لكنه أي العمل الفني أو الرياضي لايمكنه الوصول إلي نتائج مهمة إلا بالعمل الجماعي، وهو عمل لا يقتصر علي المدرب والإداري واللاعبين أو ما يناظرهم في الفن، وإنما علي الجمهور ودار العرض أو الملعب.. أقول هذا بمناسبة هذا الاهتمام الشعبي الواسع بمباراة مصر والجزائر في كرة القدم التي جرت أمس بملعب استاد القاهرة، وأخبارها تملأ صحافة اليوم، ومع أن المفترض أن يكون الحديث عنها هو قبلها، فإنني أجد جانبا وجيها للحديث بعدها فليست نتيجة المباراة هي الفيصل في هذا الحديث، ولا أي مباراة قبلها أو بعدها، وإنما هذا التنافس المتجدد في ملاعب الكرة الذي يأخذ أبعادا حضارية وثقافية بين دولتين شقيقتين وسوف تلتقيان دائما في كل مجال. لقد تحدث كثيرون عن التاريخ المشترك بين مصر والجزائر، عن حرب التحرير الجزائرية والمليون شهيد والدور المصري في ذلك الوقت، وتحدث قليلون عن دعم الجزائر لمصر في حرب أكتوبر عام 1973، وهذا التاريخ مسجل بحروف من نور أدركتها الاجيال التي عاشت هذه الاحداث، لكن ماذا عن الاجيال الجديدة من المصريين والجزائريين؟ وعن المشترك بينهم الآن؟ وهل تكفي السيرة العطرة للماضي لكي تجعل مباراة كرة قدم حدثا مليئا بروح المحبة والرياضة بديلا عن روح الكراهية والغضب؟ إنني أكتب هذه الكلمات بعد زيارات عديدة لدول عربية، الكثير منها يعرف ماضي مصر جيداً ويقدره هؤلاء الذين لمسوه في زمن مختلف، زمن بلا ضجيج اعلامي زاعق ومشتعل يبحث عن الاثارة أولا وثانيا وعاشرا قبل أن يبحث عن الموضوعية ومن موقف المسئولية.. ولذا علينا أن ندقق جيدا في المناخ والاداء الإعلامي الذي سبق هذه المباراة، وهي مهمة صعبة للغاية في وقت ضائع هو نشر هذه الكلمات بعدها بيوم، وتجاوز الناس الحدث نفسه وإلي نقطة أكثر تقدما هي ما بعد المباراة وردود أفعال الجمهور الصغير في الملعب، والجمهور الكبير في كل بيوت مصر وحواريها، ولأن التليفزيون هو نافذتنا علي العالم الآن، فقد راقبت الموقف منه، وأداء البرامج علي كل القنوات المصرية، كان الانفعال وتمني الفوز لمصر هو الغالب عليها، لكن قطاع الاخبار سبح في اتجاه أخر حينما قدم فيلما قصيرا عن تاريخ العلاقات بين البلدين، منذ أيام عبدالناصر وثورة يوليو إلي بومدين، مرورا بدور السينما وفيلم جميلة بوحريد ودور صوت الحرب وأغنيات المصريين لثورة الجزائر، وعلي قناة نايل سبورت المتخصصة خاطب إبراهيم حجازي المصريين بعقلانية داعيا إلي بذل كل الجهد داخل الملعب وهو تقريبا نفس مضمون كلمات الفنان حسن يوسف لقناة الحياة التي دعا فيها الفريق المصري إلي تقديم أداء عال مؤكدا أن الفوز سيكون حليف الأداء القوي والعقل الحكيم. أما قناة الجزيرة فقد انفردت وحدها بتقديم صورة الشباك المحطم لاتوبيس الفريق الجزائري مؤكدة أن الفيفا تدخلت حتي تحافظ علي حياته في مصر، وكأنها الوحيدة التي تخاف علي مصلحة فريق الجزائر! بينما قال سائق الأتوبيس الحقيقة لبرنامج الواحدة صباحا الاخباري علي الشاشة المصرية الأولي بعدها بساعة وأن لاعبي الفريق فوجئوا بمن يهتف لمصر، من المصريين ويرفع اعلامها فغضب بعضهم وأخذوا يدقون علي الزجاج بأدوات تستخدم في حالة الطوارئ وجدوها في الأتوبيس.. لا يمكننا إدانة أغلب هذه التغطيات، لكنها مع غيرها قامت بعمل غطاء كامل من الشحن والاستنفار المعنوي للناس في اتجاه المباراة، وتشجيع مصر وهذا واجب وطني لكنه مشروط بأن يكون الفريق المصري هو الافضل في كل شيء التخطيط واللعب والمهارات والسلوك.. فالمكسب بدون هذه العناصر كلها لا يعد مكسبا، فضلا عن أنه يصبح بدون استحقاق، ويضيع الهدف الاساسي منه وهو تنمية روح التنافس الشريف وإعلاء الروح الرياضية ونشر رسالة غير مباشرة بين الجماهير العريضة للكرة بأن الاجتهاد والجهد والابداع ضرورات للتقدم وليس الحظ والكوسة والواسطة.. ورسالة أخري هي أن هذه المباراة مثلها مثل غيرها سوف تمر ويأتي بعدها الكثير، وأنه علي المواطن المصري المحب لوطنه وفريقه ألا يضع كل همه في سلة المباراة، فيعتبرها أكثر من حدث رياضي وأنها مثل غيرها مثل كأس العالم للشباب في الشهر الماضي وكأس القارات في يونيو الماضي إلخ. وعلينا أيضا أن ندرك أن حب مصر لا يعني كراهية الجزائر، وانما تشجيع اللعبة الحلوة من الفريقين، ولقد أحسنت قناة السينما المتخصصة نايل سينما بتخصيص حلقة من برنامجها المتخصص لتغطية أحداث مهرجان القاهرة السينمائي لهذا الحدث الرياضي، وفي نفس الصالون السينمائي قدمت ماجدة القاضي حلقة خاصة مع سينمائيين مصريين فنانين ونقاداً وضيفة جزائرية حول آفاق هذا الحدث، كان لوجو الحلقة هو العلمين المصري والجزائري متشابكين، وعنوانها هو طبعا أحباب أغنية وردة الجزائرية الشهيرة والحوار فيها رائع بين مقدمة البرنامج وعزت العلايلي ونادر عدلي وأحمد فايق وسهيلة، تداخل فيه تقريران من الجزائر ومصر لآراء الناس هنا وهناك في المباراة وآراء كل شعب في الآخر.. كنت أتمني أن يكون التقريران أكبر وأشمل وأن يعرضا من خلال برنامج مستقل يتيح الفرصة لمداخلات الناس لكن ما قدمته نايل سينما هو جهد متطور ومحترم يدرك قيمة المسئولية الاعلامية وأمانة التعامل مع حدث رياضي طارئ من خلال صلاته بعلاقات ثقافية وسياسية وتاريخية ممتدة في العمق.. وليت آلاف الإعلاميين في الاذاعات والتليفزيونات يدركون أنه ليس بالحماسة وحدها، والشحن المتكرر للمستمع والمشاهد، يكون الأداء الإعلامي الصحيح والجيد، فالجمهور المصري لا يحتاج للمزيد من الشحن وإنما لتفريغ طاقته في مسارات أخري آمنة وبناءة.